الكنيسة تؤيّد الفصل بين الدين والدولة
أي مشهد يعكس تمثال «سيدة فاطيما» في المجلس؟
«ان تجربة الموارنة في السياسة هي من أقدم وأكثر التجارب تنوعا واكتمالا بين مسيحيي الشرق». جاء هذا الكلام في مقدمة الورقة السياسية لأعمال المجمع البطريركي. مجمع عملت عليه الكنيسة لسنوات لتخرج منه بأوراق معتمدة لسيرتها ومسيرتها لسنوات سابقة ومقبلة. فإذا كانت تجربة بمثل هذا الاكتمال لم تجد سبيلا الى انتخاب رئيس للجمهورية سوى بإقحام تمثال «سيدة فاطيما» و«اقتحامه» للمجلس النيابي، فربما وجب على كاتبي النص إعادة التدقيق فيه.
بدا صعبا على كثير من المسيحيين، أمس، رغم إيمانهم والتزامهم الكنسي، فهم أو تفهم إقحام «العذراء» في زواريب السياسة. لم يستطع هؤلاء سوى قراءة المشهد في ساحة النجمة وداخل المجلس النيابي، إلا على ضوء تجارب من ماض لا يبدو انه يمضي. ففي زمن الوصاية السورية، زمن ما سمي بـ «الإحباط المسيحي»، احتاج المسيحيون الى سينودس خاص بلبنان ومسيحييه والى إرشاد رسولي وزيارة من البابا وعجائب «الاب تارديف» لتسهم في خروجهم من إحباطهم نسبيا. واحتاجوا الكنيسة لتطلق نداءها في ايلول من العام 2000، وتبسط من بعده عباءة بطريركها نصرالله صفير على لقاء «قرنة شهوان» السياسي ليعودوا الى تفعيل دورهم الوطني ومد جسور نحو الآخرين.
لكن الكنيسة نفسها في مجمعها الأخير شددت على وجوب «استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة، القائمة على حكم المؤسسات الوطنية وعلى وجوب ممارسة سلطتها وسيادتها…».
فأي مشهد قدمه المسيحيون أمس، في تطوافهم بـ «تمثال فاطيما» في مجلس النواب؟
تكثر القراءات والاجتهادات.
في قراءة أولى، هو مشهد إعلان الخيبة وغياب أي أمل من نجاح الطبقة السياسية المسيحية في القيام بواجباتها.
في قراءة ثانية، هو تشبه بالطوائف الاسلامية التي تزداد مظاهرها «الايمانية» وتكتلاتها الطائفية.
في قراءة ثالثة، هو ترجمة لشعور «أقلوي» يستعرض فيه «الضعيف» بعضا من توهم حجمه ويرمي في وجوه الآخرين إيمانه بقدرة إلهية تحميه.
في قراءة رابعة «خبيثة»، هو إيحاء من مرجعيات كنسية لشد العصب الديني والقول مجددا ان الكنيسة وحدها من تملك مفاتيح الحلول: الارضية عبر الإمساك بالجماهير، والسماوية عبر امتلاك مفاتيح القديسين.
في قراءة خامسة لا تقل «خبثا»، هو رفض بعض المشاركين الإقرار بأخطاء من يناصرونهم في السياسة ومحاسبتهم ومطالبتهم بالتلاقي والتوافق على انتخاب رئيس.
وسارت روايات سادسة وسابعة وثامنة… وبقي مشتركها إعلان اليأس من الطبقة السياسية والرهان على أعجوبة ما بشفاعة مريمية.
لم يكن مشهد ساحة النجمة أمس يشبه الصورة التي يحاول كثر من المسيحيين تسويقها عن أنفسهم وعن دورهم. ها هم طائفة اخرى تجتاحها الحاجة الى «نصر إلهي» لتتمكن من انتخاب رئيس للجمهورية. وها هم يرمون آلاف الاوراق والقراءات النقدية وتحليل التجربة والبحث في كيفية مواجهة التحديات وراءهم، فلا يبقى أمامهم إلا تلمس شفاعة قديسيهم.
نسي المسيحيون، أمس، أبرز ما ورد في الورقة السياسية للمجمع البطريركي وفيها ان «الدولة المنشودة هي التي تؤمن التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلا من اختزال الدين في السياسة أو تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق».
فأين كان وضوح التمييز والفصل في مشهد أمس؟
نسوا ما أعاد تأكيده المجمع من ان «السياسة شأن نبيل، لا بل فن شريف»، وانه «يجب إعادة الاعتبار للعمل السياسي». قالوا، من دون ان يقولوا، أمس، ان لا ثقة لهم بالسياسة ولا بالسياسيين وان مرجعهم في الشؤون الدنيوية هو نفسه في الشؤون الدينية.
نسوا ان المسيح نفسه قال ان «مملكتي ليست من هذا العالم». فبدا مشهد ساحة النجمة، أمس، لكثر من المسيحيين وكأنه إشهار الانتماء الى «هذا العالم» العربي الذي يبدو وكأنه يكتشف الايمان والدين وممارستهما للمرة الاولى، بعد طول أزمنة وثنية.