التعويل على ملء الكرسي الرئاسي للقبض على زمام الامور، لا يترجم اليوم . فلبنان يعيش انهيارا للوضع النقدي والمالي، وممارسة اقسى العقوبات المصرفية في حق اللبنانيين، في غياب فاعل لرئاسة الجمهورية وحزب العهد القوي
ماذا يدور في قصر بعبدا؟ هل يعرف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حقيقة انعكاس انخفاض سعر صرف الليرة على حياة اللبنانيين اليومية وكيف فقدوا حقهم في العيش بكرامة؟ وهل يدرك رئيس الجمهورية ما يحصل في المصارف وحجم الاذلال الذي يعانيه اللبنانيون لتحصيل رواتبهم واموالهم؟ وهل يطلع اركان العهد ومستشارو القصر رئيس الجمهورية على حقائق ملموسة حول استعدادات بالجملة للهجرة، وما يشهده لبنان من اكبر موجة غلاء واوسع حالة فقر متنامية، وكيف يطرق الجوع ابواب الاف العائلات وكيف تقفل مؤسسات صناعية وتجارية، ويصرف العمال والموظفون بالمئات؟ هل هناك من يقرأ في قصر بعبدا كيف يعيش اللبنانيون «تقنيات البؤس» والحرب في زمن السلم.
ما يظهر فعليا ان العهد يتعامل مع الوضع، وكأن تشكيل الحكومة خاتمة احزان اللبنانيين، من دون اي اعتبار الى ان الازمة التي انفجرت في 17 تشرين الاول لم تعكس بعد حجم الانهيار الفعلي، وان الازمة النقدية لا تعالج على الورق. يتحول المشهد العبثي في الانفصال التام عما يجري في اليوميات اللبنانية، كما تدل استقبالات رئيس الجمهورية. فيفتح القصر ابوابه لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولرئيس جمعية المصارف سليم صفير، ومجموعة من المتورطين مباشرة في الازمة المالية والاقتصادية، لمشاركتهم في ايجاد حلول لها، فيما يفترض ان يكونوا اول من تتوجب محاكمته. وما حصل في طريقة معالجة قضية دفع بطاقات السفر بالدولار، مؤشر الى وجود تواطؤ في مكان ما بلا اي ردة فعل ومحاسبة جدية. فحين يستسهل المدير العام لشركة طيران الشرق الاوسط محمد الحوت اتخاذ قرار مماثل، في ظل ازمة مالية حادة، يعني انه مطمئن تماما ان لا مساءلة له من اي جهة اتت، وان مفاعيل التمديد لسلامة وغض النظر عن المطالبات السابقة باقالته، لم تنته بانتهاء التسوية الرئاسية، ولا تزال الخيم المنصوبة فوق رؤوس مجموعة كبرى من الموظفين، قائمة بتغطية سياسية واسعة.
دقيق موقع رئاسة الجمهورية في الازمة الراهنة، لان انسحابها من المشهد السياسي، يأتي بعد زخم الاطلالات الاولى لرئيس الجمهورية، عندما تكثفت الاستهدافات التي طاولت التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل. منذ ان تدخل عون بقوة عبر خطابات ومقابلات عند قطع الطرق وتزايد اعداد المتظاهرين، لم نعد نسمع اي خريطة طريق للخروج من الازمة ومقاربة حلول لها، او فرض اتخاذ اجراءات فعلية في حق المسؤولين مباشرة عن سرقة اموال اللبنانيين في المصارف، في ازمة معروفة ومكشوفة تفاصيلها ولا تحتاج الى مدقق حسابات. خطورة ما يجري في هذا الموقع اليوم، بعد مرحلة فراغ طويلة، انه يعكس حجم غياب الرئاسة وعدم فعاليتها، في شكل يفوق ما كان عليه عهد الرئيس اميل لحود في مرحلة عام 2005، وما رافقها من استحقاقات سياسية وامنية خطرة، ظل لحود مصرا على ان يكون حاضرا فيها مهما اختلفت حوله الاراء. وهذا يطرح علامة استفهام حول دور رئيس الجمهورية الذي حرص عون قبل وصوله الى بعبدا على تكبيره والضغط لاستعادة صلاحياته، فيما ينكفىء فعليا عند استحقاق يهدد مصير اللبنانيين. لان ما يجري اليوم يفوق بخطورته على مستقبل لبنان وشعبه، ما حصل خلال الحروب الماضية، خصوصا في ظل تخلي المجتمع الدولي عن اي مساعدة تذكر.
خطورة ما يجري في هذا الموقع اليوم انه يعكس حجم غياب الرئاسة وعدم فعاليتها
كذلك تظهر الازمة، حجم التعثر الذي يعيشه عون والتيار معا خلال وجودهما في السلطة، في شكل يتناقض مع عناوينهما السياسية السابقة، فيظهران فعالين اكثر خارج الحكم مما هما داخله. يقارن بعض معاصري عون في التسعينات ما يجري معه اليوم بما جرى معه قبل دخوله القصر الجمهوري آنذاك وبعده. من لا يذكر عون خارج السلطة يطالب بالمحاسبة وبالقانون وحماية الناس وتأمين حقوقهم، وباقالة المسؤولين عن الارتكابات حين تندلع ازمة ما. لكنه اليوم يبتعد خطوات الى الخلف، ليظهر متفرجا اكثر منه لاعبا اساسيا ومحوريا كرئيس للجمهورية يدير ازمة كبرى. كذلك لم تفلح تجربة التيار داخل السلطة قبل تسلم عون الرئاسة وبعدها، الا في المناكفات، والتيار لا ينفي ذلك، بل كان دائما يتبجح بأنه يتصدر المواقف المعارضة تحت عناوين جذابة، مسيحية ومعيشية ووطنية، وهذا امر يحتاج التيار فعليا الى مناقشته بعيدا عن «البطولات الالكترونية» واستهداف مجموعات المتظاهرين الفاعلين. لا يمكن تلطي العهد وحزبه خلف الحكومة الجديدة، بعدما كانت التسوية الرئاسية حائط المبكى للفريقين. وهي وان انتهت بخروج الرئيس سعد الحريري وباسيل من واجهة السلطة الا ان الصف الثاني والثالث من تركيبة التسوية لا يزال قائما، والا كيف يمكن غض النظر عن كل الارتكابات الجارية في شتى الاتجاهات من دون اي اعتراض. يكبر غياب الرئاسة عن تحمل مسؤولياتها في الدفع نحو محاسبة المتورطين بأزمة المصارف وتواطؤ سياسيين فيها. القضية اليوم لا تتعلق بسوريا او ايران والسعودية، او تحصيل حقوق المسيحيين في الادارة، بل بدور مركزي لرئاسة الجمهورية ومسؤوليتها الفعلية، في لحظة تاريخية، اما بمواجهة طبقة من السياسيين والمصرفيين او المشاركة معها في التآمر على اللبنانيين ومستقبل بلدهم.