IMLebanon

لبنان: كفى بالأَجَل حارساً!

 

 

خطر ببالي هذا القول السائر أو المَثَل الورِع، عندما سمعتُ رئيس الجمهورية اللبنانية يقول إنّ عهده افتتح حقبة جديدة في تاريخ لبنان هي حقبة الجمهورية الثالثة! وما كفى ذلك حتى أعلن رئيس حكومته حسان دياب عن عدم الوفاء للدائنين الدوليين والمحليين، لأنّ احتياطيات المصرف المركزي بلغت نقطة حرجة! وهو بذلك اتّبع ما سبق أن طلبه «حزب الله» (ونبيه بري) من عدم التعاون مع صندوق النقد الدولي للمساعدة في حلِّ المشكلات الاقتصادية والمالية الهائلة التي يعاني منها لبنان. وكانت الحجة في ذلك أنّ لبنان بالتعاون مع الصندوق إنما يضحّي بسيادته واستقلاله! وقد ذكر رئيس الحكومة أنّ خمسين دولة في العالم سبقت لبنان في عدم وفاء ديونها. لكنّ الرئيس ما قال إنّ هذه الدول جميعاً تعاونت مع صندوق النقد ومع البنك الدولي في الخروج من أزماتها. وقد فعلت تلك الدول جميعاً أيضاً ما لم يفعله لبنان حتى الآن: الذهاب للمؤسسات المالية الدولية وعندها خطة ومطالب. الخطة تذكر ما تلتزم الحكومة القيام به من تقشفٍ وإصلاحاتٍ بالفعل، وتأتي مطالب التعاون والمساعدة التي يلبيها صندوق النقد ويتابع تنفيذها مع الحكومة أو الحكومات في ضوء الخطة المقنعة التي وضعتها. فالأبواب مسدودة على الدول المفلسة مثل لبنان على أي مساعدة ما لم تحظَ ببصمة التصديق والضمان من المؤسسات المالية الدولية. فالدولة اليونانية وهي عضوٌ بارزٌ في الاتحاد الأوروبي عندما داخَلَ الخللُ الشديد ميزان المدفوعات فيها، ما استطاعت الحكومة المنتخبة الحصول على دعمٍ من الاتحاد الأوروبي، ومن صندوق النقد، إلاّ بعد أن قدمت خطة تقشفية، واتخذت إجراءات اقتصادية ومالية، وأجْرت انتخاباتٍ جديدة لتجديد شرعيتها وقدرتها على إنفاذ الالتزامات التي أخذتها على عاتقها أمام الدائنين والمساعدين وبينهم ألمانيا والولايات المتحدة، وبالطبع المؤسسات المالية الدولية. أما رئيس الحكومة اللبنانية العتيد فقد تلبّث شهراً على أساس أنه يضع الخطة العظيمة للإصلاح والنهوض وسط صرخات الحزب والنائب جميل السيد والرئيس بري بعدم الدفع للدائنين، ثم أعلن عن عدم الدفع، وقال إنه طلب من الوزراء تقديم مقترحات للخطة الموهومة، وإنه يتوجه بعدها إلى المؤسسات الدولية للتفاوض، وطلب المساعدة! ليست هناك خطة إذن ولا أحد يدري ما هي معالمها. إنما لو تتبعْنا منطق «الخطاب» يوم السبت الماضي، لوجدنا أنه يُلقي المسؤولية على السنوات الماضية (وقد كان كل الذين جاءوا به لرئاسة الحكومة موجودين فيها ومسيطرين!)، ويتجاهل مزاريب الهدر والفساد في عهد الجمهورية الثالثة، كما يتجاهل استيلاء الحزب على موارد المرفأ والمطار والمعابر مع سوريا: فكيف سيكون التقشف، إن لم تُحلّ استنزافات الكهرباء، واستنزافات موارد الدولة التي يهيمن عليها الثنائي الشيعي، الذي يريد عزل لبنان عن العالم بحجة الحفاظ على سيادته!

وإلى جانب اتهام الماضين (يعني تيار الرئيس رفيق الحريري)، هناك اتهام القطاع المصرفي، وقد صارت البنوك الهدف الأول للشيوعيين المشاركين في الحِراك الشعبي ولأنصار «حزب الله» الذين يزعمون الدفاع عن قضايا الشعب ومعيشته. والبنوك ولا شك حلقة في الدائرة المغلقة: الحكومات تنفق بما يزيد على الواردات بكثيرٍ جداً، فتستدين من البنك المركزي، الذي يستدين بدوره عبر سندات الخزينة من البنوك بفوائد مرتفعة. وهي عملية اعتبر مصرفي كبير قبل سنوات أنها كمن يلحس المبرد. فالمذنب الأول هو الحكومات التي أسرفت في الإنفاق والهدر. والمذنب الثاني حاكم المصرف المركزي الذي كان يسارع دائماً لإجراء الهندسات المالية لتوفير المال من دون حدود ولا ضوابط لحكومات عهد عون بالذات. والمذنب الثالث مصارف لبنان الكبرى التي اغترَّتْ بالربح السريع والآمِن فتصرفت بأموال المودعين الكبار والصغار. وهكذا صار المودعون ضحية جشع المصارف، والمصارف ضحية وهم الربح الآمِن باستثمار أموال الناس في صفقات مع البنك المركزي. والبنك المركزي أفلس لأنه مستمرٌ في صب ماء الحياة في هذا الغربال متسع الثقوب: حكومات الطبقة السياسية اللبنانية! في دول الاقتصاد (الحر) بالذات تكون مهمة البنك المركزي الإشراف على سياسات التوازن والاستقرار النقدي بالداخل ومع العالم. وتكون مهمة البنوك تغذية الاستثمار في القطاع الخاص، وإقامة علاقات الثقة مع رأس المال الوطني والأجنبي من أجل الإيداع والاستثمار في حركة النمو. وقد تجاهل الطرفان تلك المهمات والوظائف: البنك المركزي وبالخضوع للسياسيين رغم ضمانات استقلاله في القانون. والقطاع المصرفي لأنه تجاه السوق واحتياجاته ومضى باتجاه الربح الضخم والسريع. وقد تجاهل الطرفان تلك المهمات، وأين يقع الحزب من عمليات الفساد الشاسعة هذه؟ هو يشارك فيها بقوة، ثم هو يحميها. ففي مقابل سيطرته السياسية والعسكرية، يكون بوسع أطراف الطبقة السياسية الخاضعين أو الساكتين، المشاركة في النهب الواسع للمال العام، بأشكالٍ مختلفة!

وهناك الملف الآخر الذي تفجّر في العالم وفي لبنان؛ وهو ملف «كورونا». فالمعروف أنّ هناك أربع بُقَع كبرى في العالم انتشر فيها الوباء أولاً: الصين وكوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا. وقد أفصحت حكومات تلك البقع عن أوضاعها مع المرض العضال باستثناء إيران. فكان من سوء حظ لبنان أن الطائرات الإيرانية المحملة بلبنانيين عائدين وغير لبنانيين ما جرؤ أحد (ووزير الصحة اللبناني عضو في «حزب الله») على منعها حتى بعد إعلان إيران متأخرة عن وجود الداء فيها. ومع أنه ما مات بالداء حتى الآن غير مواطن واحد؛ فإنّ الشائعات الهوجاء تقول إنّ الإصابات تقدَّر بالمئات بل الألوف. هو رعبٌ هائلٌ انتشر لعدم الثقة بالحكومة وأقوالها، وللإحساس بأنّ الحزب يريد التستر على إيران والعائدين منها!

ما معنى: كفى بالأَجَل حارساً، في هذه السياقات؟ معناه أنّ اللبنانيين فيما يعتقد كثير منهم، معرَّضون للموت بالجوع أو بالداء أو بالمصادفة، ومن لم ينزل به الموتُ أو خوفُه، فليس ذلك لمناعة يتمتع بها من جانب دولته أو من جانب الحزب المسلَّح، بل لأنّ أجَلَه لم يحضُرْ أو لم يحلّ! فهل الأمور سيئة إلى هذا الحدّ حقيقة، أي أنّ اللبنانيين يعيشون من «قلة الموت» كما يقول المثل؟! لستُ على يقينٍ من ذلك، لكنّ هذا ما يظنه لبنانيون كثيرون في عهد الجمهورية الثالثة!