مذ طُرح اسم الرئيس سعد الحريري مرشحاً محتملاً لتأليف الحكومة الجديدة، كثرت من حوله لاءات افرقاء اساسيين في الداخل والخارج، فيما لا نعم صريحة بعد الا واحدة يحملها رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ويؤيده فيها حزب الله. منذ غداة استقالة حكومة الرئيس حسان دياب في 10 آب، لا سجال سوى من حول سؤال يتيم هو: لماذا يعود الرئيس سعد الحريري الى السرايا؟
المعلن في المشاورات الدائرة هو الخلاف القائم بين الثلاثي، المعني مباشرة بالتكليف، مع انه اختصاص مزدوج: رئيس الجمهورية يدعو الى استشارات نيابية ملزمة، والغالبية النيابية صاحبة القرار الحصري في تسمية الرئيس المكلف. كلاهما مدرجان في المادة 53 من الدستور. اما واقع الحال فمختلف: رئيس الجمهورية ميشال عون، ومعه حزبه التيار الوطني الحر وحلفاؤه كأكبر كتلة في البرلمان يرفضان الحريري، والثنائي الشيعي يؤيده بحماسة، فيما الشخصية التي يدور الجدل من حولها وهي الحريري نفسه تريد ولا تريد، تتدلع وتكابر، متهافتة ومشترطة في الوقت نفسه. الفريقان الأولان يمثلان الغالبية النيابية في البرلمان صاحبة الكلمة الفصل في ترئيس الحريري كما في اقصائه، بينما الفريق الثالث يتسلح بكونه الاكثر تمثيلاً في طائفته والاقوى فاعلية كي يرضى او يرفض او يطعن في شرعية مَن يحل في رئاسة الحكومة. مع ان ثمة افرقاء آخرين ذوي حيثية سياسية وشعبية، بيد انهم في المرحلة الحالية لمناقشة التكليف يبدون على الهامش، ولا يُسألون بالضرورة رأيهم: وليد جنبلاط وسمير جعجع غير متحمسيْن للحريري مع ان البعض يعتقد ان مفتاح موقف الاول عند برّي، غير انهما يوهمان الآخرين انهما حليفاه، وسليمان فرنجيه يفضل الحريري.
على نحو كهذا، فقد مجلس النواب تماماً اختصاصه في تسمية الرئيس المكلف، وإن كانت الغالبية المرجحة في يد قوى 8 آذار. مجرد قصر التشاور على ذلك الثلاثي علق عملياً تنفيذ المادة 53، ووضع التكليف في مهب مقاربة كل من افرقاء الثلاثي شروطه:
1 – بعدما كانت وجهة نظر رئيس الجمهورية رفض ترئيس الحريري الحكومة الجديدة، مع لاء مطلقة، اضحى موقفه الآن اكثر مرونة من غير ان يكون نهائياً او قاطعاً: لاء… ولكن. بات الرئيس يتحدث عن ضمانات يطلبها سلفاً من الحريري كي يوافق ـ وحزبه والكتلة النيابية الاكبر ـ على وصوله الى السرايا. وهي المرة الاولى في عمر الاستحقاق منذ اتفاق الطائف، يُثار كلام عن ربط التكليف بالضمانات. في الحقبة السورية، اياً يكن رئيس الحكومة، بما في ذلك الرئيس رفيق الحريري بالذات، تقيم الضمانات في تركيبة الحكومة وتوازناتها والغالبية الموصوفة التي تمسك بها دمشق، المعوَّل عليها للسيطرة ليس على السلطة الاجرائية – وهو الاساس – بل ايضاً على رئيسها.
منذ ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008، من غير ان تكون سوريا حاضرة في لبنان ولا في المشاورات ولا مديرة لها، انتقلت الصلاحية الى القوى التي ورثت الدور السوري، الثنائي الشيعي وتيار المستقبل وجنبلاط وعون وتياره، التي اضحت مشاركتها في الحكومة وحصصها وحقائبها وتسميتها هي وزراؤها والنصاب الموصوف سلة الضمانات التي ينشأ عنها ـ وعنها دون سواها ـ تأليف الحكومات المتعاقبة. وقتذاك لم يُثر مرة في الحكومات السبع التي اعقبت اتفاق الدوحة بما فيها حكومة دياب، ولم يؤتَ على ربط الضمانات بالرئيس المكلف، بل استمر استنساخ الطبعة السورية: الحكومة ليس رئيسها مصدر الضمانات، ولذا كان يسهل اسقاطها. اول مَن جرّب هذا الفحص الحريري الابن في اولى حكوماته عام 2011 عندما أُسقطت من داخلها بنصاب دستوري، اظهر ان توازنات الحكومة تلك كما التي تلتها اصلب واجدى من صلاحيات رئيسها الذي لا يتنحى الا في لحظة الاختناق.
2 – ما يتردد من معلومات عن الضمانات التي يطلبها رئيس الجمهورية من الرئيس المكلف، الحريري او سواه – والمقصود بالذات الحريري – تدور من حول بنود عديدة:
اولها، ما دام النائب جبران باسيل وتياره لن يتمثلا في الحكومة الجديدة، فالحصة المسيحية الرئيسية ستكون عند الرئيس على نحو يمكنه من ان يكون الضابط الفعلي لأداء الحكومة ومسارها. مغزى ذلك ان تؤول الحصة تلك او معظمها اليه وحده من جهة، ووضع وزرائه في الحقائب التي يتمسك بها على الدوام كالخارجية والدفاع والطاقة والعدل من جهة اخرى. يُنظر الى تريث عون في توجيه الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، من غير مهلة مقيِّدة لها وهو الأب الاول لهذا العرف، على انه في صلب ممارسته صلاحياته الدستورية بالوصول الى حكومة تراعي التوازن السياسي والتمثيلي، وليس المناصفة الطائفية فحسب.
ثاني البنود تلك، وقد يكون اعقدها واصعبها، هو حصوله من الشخصية المرشحة للتكليف – واكثر المعنيين هو الحريري – على ضمانات بإجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان الذي قررته الحكومة المستقيلة ولم توقع عقده، وكذلك شمول هذا التحقيق المزاريب الرهيبة لإهدار المال العام وسرقته ونهبه: مجلس الانماء والاعمار، الهيئة العليا للاغاثة، مجلس الجنوب، صندوق المهجرين. مقدار ما يسهل انتزاع ضمان كهذا من اي مرشح للتكليف ما خلا الحريري، مقدار ما يربك الحريري، المتمسك على الدوام بإبعاد الشبهات عن مصرف لبنان والهيئة العليا للاغاثة ومجلس الانماء والاعمار. الاول انجده في الهندسات المالية، والاخران يقعان تحت يديه. مع ان ضماناً كهذا يُعدّ انتزاعه منه تعجيزياً، بيد انه يعني عند الحريري اشبه بمَن يقتطع بسكين مسنون جزءاً من قلبه او كبده او بطنه.
3- يعزو رئيس مجلس النواب تمسّكه بالحريري مرشحاً وحيداً لرئاسة الحكومة الى نظرته الى الموقع، وهو انه سياسي بامتياز، لا يسع ان يحل فيه الا الاكثر تمثيلاً في طائفته، وهي حال الرئيس السابق للحكومة. لم يعد احد يسمع برّي يصرّ على حكومة الوحدة الوطنية كخيار اوحد – وهي كذلك في قرارة نفسه – بل يتوسّع في تقدير موقفه للحكومة الجديدة. ما دام الحريري رئيسها لم يعد مهماً مَن فيها سياسيين او اختصاصيين او مختلطة من الاثنين. لا يمانع في ان تكون من اختصاصيين حتى. ما يسمعه منه المتصلون به، انه يناقش تأليف الحكومة ببراغماتية ناجمة عن ان المنطقة تمر في مرحلة قطع رؤوس، يقضي ان ينجو لبنان بنفسه منها. يقول انها صعبة، ووجود الحريري على رأس الحكومة يقلل الاخطار والاضرار.
لحزب الله موقف مطابق لوجهة نظر برّي، آخذاً في الاعتبار عاملاً اضافياً، هو اصراره على رئيس للحكومة يمنع ايقاظ الفتنة السنّية – الشيعية، بعدما استبقت اخيراً صدور قرار المحكمة الدولية اشارات لمحت الى افتعالها. المهم في ما قاله الحريري – من غير الذي توجّه به الى جمهوره لاستيعاب نقمته وصدمته من القرار – هو تشبثه برفض الفتنة. الموقف المقابل للحزب، انه لا يريد ان يجد نفسه يوماً يواجه فتنة كهذه، ولا ان يكون مضطراً الى اطفائها بالقوة.