ليس في أفق الأزمة القائمة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، ما يؤشّر إلى نزع صاعقِ التفجير منها في المدى المنظور، فلكِلا الرئيسين محرّماتُهما، وقراءاتهما المتناقضة لمرسوم منحِ الأقدميات وكيفية نفاذه، ولا تراجع من هذا الجانب أو ذاك.
ثمّة مقولة شائعة تردّ أيَّ خلاف أو سوء تفاهم، أو تبايُن، أو تعارض في الرأي، أو اشتباك فاتِر أو ساخن بين عون وبري، إلى انعدام «الكيميا» بما وضَع علاقتهما على حدّ السكّين، والاشتباك والنفور بينهما هو القاعدة، والتفاهم أو التقارب أو التعاون هو الاستثناء، وأمّا المهادنة أو المساكنة والتعايش بين وقتٍ وآخر، فكلّها مؤقّتة.
البعض، قارَب الأزمة الحالية كنتيجة طبيعية لـ«الكيميا» المفقودة، وأنّها المسؤولة عن افتراق الرئيسين. لكنّ التعمّق في علاقة الرئيسين يُظهر أنّ فرَضية «الكيميا» خاطئة من أساسها، بل هي علاقة متأثّرة بمسار سياسيّ طويل شهدَ تقلّبات جذرية في أكثر من محطة.
بدايةً، ميشال عون ليس نبيه بري، ونبيه بري ليس ميشال عون، وبمعزل عن البُعد الشخصي للعلاقة، ففي السياسة توجَد سياسة وتوافقات واختلافات، ولا صداقات دائمة ولا عداوات وخصومات دائمة، كما لا نظرات ومقاربات ورؤى متطابقة حول أيّ مِن الأمور.
ومِن هنا اتّفقا، التقيَا، واختلفا وتباعَدا، واجتمَعا لا بل تكامَلا في محطات، كان آخرَها خلال أزمةِ الحريري، وقبلها كانا في خندقٍ واحد خلال حرب تمّوز 2006، وخلال حوار آذار 2006 في مجلس النواب وسائر المحطات الحوارية الأخرى، وأيضاً خلال اعتصام وسط بيروت، وصولاً إلى الاستقالة المشترَكة من حكومة الحريري مطلعَ العام 2011. هنا لم تكن الكيميا هي العامل المقرّب بين عون وبري، بل الموقف السياسي المشترك.
هي علاقة صعودٍ وهبوط بين عون وبري، وكما اتّفقا في محطات، اشتبَكا في أخرى:
- محطة الحكومة العسكرية التي ترأسَها عون، ووقوفُ بري في موقع الخصم له.
- محطة الاتفاق الرباعي في وجهِ عون في انتخابات 2005.
- محطة جزّين التي كان بري حاضراً فيها عبر نائبَين، وإعلان عون معركة «استرداد قرار جزين» في انتخابات 2005 و2009.
- محطة التفاهم بين عون و«حزب الله» في شباط 2006، ومخاطبة عون لبري بأنّه «حليف حليفي».
- محطة التمديدَين الأوّل والثاني لمجلس النواب، وإعلان عون أن لا شرعية للمجلس ورئيسه.
- محطة تأخير تسريح القادة العسكريين، حيث كان رئيس الجمهورية مستعجلاً لإخراج العماد جان قهوجي من قيادة الجيش، فيما تمسّكَ بري ببقائه.
- محطة الانتخابات الرئاسية ودعم بري للنائب سليمان فرنجية وإعلانه أنّه لن ينتخب عون، أو بالأحرى إنه لن ينتخب «رئيسين»، في إشارةٍ إلى موقع جبران باسيل خلال رئاسة عون.
- محطة تأليفِ أولى حكومات العهد، والنفور الذي رافقَ تشكيلَها لناحية توزيعِ الحقائب ونوعيتِها والاستئثار بالعدد الأكبر منها للتيار الوطني الحر واستحداث ما سُمّيت «حصة الرئيس»، وكذلك الإشكال الذي سبَّبه رفضُ عون جعْلَ وزارةِ المالية من حصّة بري، ومن ثمّ وضعُ فيتو على اسمِ الوزير علي حسن خليل.
- محطة قانون الانتخابات، والطروحات المتتالية لباسيل، والتباينات التي شابَت علاقة التيار بمختلف القوى السياسية وبري ضِمنها، على خلفيةِ ما سُمّيت أفكاراً استئثارية للتيار على حساب سائر القوى والشخصيات المسيحية وغيرِ المسيحية.
- محطة مخالفةِ القانون الانتخابي السابق وعدمُ السماح بتعيين هيئةِ الإشراف على الانتخابات.
- محطة مخالفةِ الدستور، في الوقت الذي يتمّ فيه الإعلان من قبَل رئاسة الجمهورية عن حِرصها على القانون والالتزام بالدستور، حيث تمّ تطيير الانتخابات الفرعية لملءِ ثلاثة مقاعد شاغرة، وتجاوزِ النص الدستوري الذي يوجب إجراءَها، وخصوصاً أنّ المهلة الفاصلة عن نهاية ولاية المجلس النيابي كانت تزيد عن ستّة أشهر.
- محطة تقديم التفاهمات الثنائية (تفاهم نادر – جبران)، على الشعارات الإصلاحية الكبرى، وتجاهلها إلى حدّ غضِّ النظرِ على مخالفة الأصول القانونية في المشاريع الكبرى، ولا سيّما في ملف بواخر الكهرباء، الذي كان فريقُ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة متحمّسين لتمريره خلافاً للقانون، وفوق رأي إدارة الماقصات التي جاهرَت بالثغرات القانونية التي تعتري هذه الصفقة. وكان بري هنا في الموقع المعارض لهذا النوع من الصفقات، ومع إعلان المناقصات حتى على مشاريع ولو كانت كلفتها مبالغَ رمزية.
- محطة غضِّ النظرِ على تبرّع وزارة الاتصالات بمنحِ قطاع الإنترنيت لشركة معيّنة إلى الأبد، بقرار من الوزير، وتسخير كلِّ إمكانيات الوزارة في خدمة هذه الشركة، وكلّ ذلك خلافاً للقانون، وخلافاً للدستور الذي يحرّم في المادة 89، «منح أيّ التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامّة أو أي احتكار إلّا بموجب قانون وإلى زمنٍ محدود».
- محطة سلسلة الرتب والرواتب والاختلاف على مصادر تمويلِها.
- محطة مرسومِ الأقدميات العالق حالياً على الحلبة بين الرئيس عون الذي يراه حقّاً واجباً للمستفيدين منه وقانونياً ونافذاً ولا موجبَ لنشرِه ولا لتوقيعِ وزير المالية عليه، وبين بري القائل بحقّ المستفيدين منه، ولكن وفقَ الأصول التي توجب توقيعَ وزير المال ونشرَ المرسومِ في الجريدة الرسمية طبقاً للقانون 646 الذي أقرّه مجلس النواب في العام 1977 ويوجب نشرَ كلِّ المراسيم في الجريدة الرسمية لتصبح نافذةً.
تلك هي الصورة للعلاقة بين بري وعون، وإذا كانت الإشكالات السابقة بينهما على المحطات المذكورة قد انطفأت فقد بقيَ جمرُها رابضاً تحت الرماد. وأمّا في ما خصَّ أزمة مرسوم الأقدميات فيبدو من الوقائع الخلافية حيال هذه المسألة أنّها ليست من النوع الذي يمكن أن يعالَج بتسوية شكلية أو تبويسِ لِحى على الطريقة اللبنانية، بل إنّ تعقيداتها شرّعت السؤالَ التالي: قبل المرسوم كانت علاقة عون وبري سمناً وعسلاً، تمرّ في أحسنِ لحظاتِ الراحة والانسجام بعد النجاح في تجاوزِ أزمةِ استقالة الحريري، وفجأةً قطعَها المرسوم وطريقةُ إعدادِه، أو تهريبه كما عبّر بري، فهل وصَلت العلاقة بين رئيسَي الجمهورية والمجلس إلى نقطة الكسرِ النهائي واللاعودة؟
ومَن هُم الخبثاء الذين زرعوا عبواتٍ ناسفة وأفخاخاً في علاقةٍ محكومة باختلافات وتباينات مزمِنة؟ ومَن يصبُّ الزيتَ على النار ويدسُّ السمَّ في هذه العلاقة بابتداع دراساتٍ وتفسيرات واجتهادات لا صِلة لها بالقانون والدستور؟
واضحٌ أنّ هذا المسار مستمرّ تصاعدياً، إلّا إذا تمّ الالتزام فِعلاً بمنطوق الطائف والصلاحيات، وإلّا إذا نجَح الحريري في إعادة لحمِ العلاقة بين عون وبري، إذ إنه وحده دون غيره القادر على أن يلعب دور الوسيط بينهما، ويَمنع استمرارَ هذا المسار حتى الانتخابات، وربّما إلى ما بعد الانتخابات، حيث ستكون الكلمة الفصلُ آنذاك للخريطة السياسية والنيابية التي ستَرسمها صناديق الاقتراع.