مع تعاظُم الأزمة التي تعصف بلبنان، ومع انسداد أفق المساعدات الخارجية له، لا يختلف إثنان على أن الثروة البحرية من النفط والغاز تُشكل خشبة الخلاص الوحيدة المتبقية لهذا البلد، لتُخرجه من ضائقته الإقتصادية والمالية التي تُفقره الى حدّ خنقه، وتضعه بالتالي على سكة الإنفراج والإنتعاش مُجدداً.
وصلت سفينة الحفر والتنقيب الى المياه اللبنانية، وبهذا الحدث الذي طال انتظاره، يتعزّز الأمل في أنّ لبنان قد بدأ خطواته العملية نحو استفادته من هذه الثروة الغارقة في البحر، وإن كانت هذه الإستفادة ستأتي بعد سنوات، المهمّ أن لبنان وضع قدمه على مسار الدخول الى نادي الدول النفطية، والذي يفترض أن تؤكده نتائج عملية التنقيب وحجم الموجودات النفطية والغازية، المنتظرة خلال فترة الستين يوماً المقبلة التي حدّدتها الشركة المعنية.
من الطبيعي ان يُعتَبر وصول سفينة الحفر، في أكثر الأوقات الصعبة التي يمرّ بها لبنان، مناسبة إحتفالية وطنية عامة، إلّا أن الوقائع التي رافقت هذا الوصول، لم تُثبِّت هذه المناسبة الوطنية العامة، بل على العكس، قلّصتها الى نطاق حزبي ضيق جداً، وجيّرت هذا الحدث كإنجاز حصري لطرف سياسي وحيد، متجاوزة شراكة سائر الآخرين ودورهم في بلوغ هذا الإنجاز!
من الطبيعي أن يعبّر الرئيس ميشال عون عن سعادة قصوى بإنجاز كبير يعنيه، حيث سيسجّل له إن أولى الخطوات العملية لإستفادة لبنان من ثروته النفطية والغازية قد بدأت في عهده.
لكن في المقابل، سيسجّل عليه أنه في إطلالته التلفزيونية الأخيرة التي فرضها هذا الإنجاز، كانت مقاربته «حزبية»، حينما ألبس هذا الإنجاز ثوباً حزبياً صبغ فيه النفط والغاز الموعودَين باللون البرتقالي حصراً، بقوله إن هذا الحدث يأتي نتيجة «التزامنا من خلال تكتل «التغيير والإصلاح»، والوزارات التي تولّينا تحمّل مسؤولياتها ولا سيّما منها وزارة الطاقة التي تسلمّها الوزير جبران باسيل والذين تعاقبوا من بعده، أن نعمل ليل نهار، ومن دون هوادة، من أجل تحقيق هذا الحلم».
المتتبع لملف الثروة البحرية من النفط والغاز، منذ لحظة طرحه قبل سنوات وحتى الآن، لا يستطيع أن ينفي دور رئيس الجمهورية وتكتل التغيير والإصلاح ووزارة الطاقة فيه، ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع أبداً أن يرى بعين واحدة، ويلغي أدوار الآخرين أيضاً.
فأن يتم تظهير هذا الإنجاز، كما يقول معنيون بالملف النفطي، على أنه نتاج جهد بذله التكتل و»التيار الوطني الحر» وباسيل ووزراء الطاقة بعده، فيه ظلم للتكتل والتيار وللوزراء، وظلم للحقيقة، وظلم أكبر لملف النفط عموماً، وكيف أديرَ من بداياته وحتى وصول السفينة قبل يومين!
المهم في رأي هؤلاء المعنيين، أن يأكل لبنان «العنب النفطي» ولو بعد سنوات، ولكن المهم أيضاً هو ألّا يُطمس، أو يؤكل، أو يُصادر دور أو جهد كل من ساهم ولو بجهد متواضع في إيصال هذا الملف الى مرحلة الحفر والتنقيب.
ولعل تاريخ الملف النفطي البحري، أقلّه الى ما قبل سنوات عدّة سبقت بدء ولاية عون، يسجّل سلسلة محطات خاضها رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ ما قبل العام 2005، سواء في المجلس عبر إصدار التشريعات التي تؤكد حق لبنان بحدوده البحرية الخالصة، أو على طاولة المفاوضات مع الدول المعنية بعمليات التنقيب، أو مع القبارصة، أو مع الأميركيين، حيث لعب دور «المقاوم النفطي» على طاولة ترسيم الحدود البحرية وحق لبنان بثروته النفطية والغازية فيها، وقاتل بشراسة مع المعنيين الأميركيين بهذا الملف، بدءاً من مساعد وزير الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان وجلسات متتالية حول هذا الملف معه ، الى فريدريك هوف، الى آموس هوشتين، الى ديفيد ساترفيلد، وصولاً الى ديفيد شينكر، ولا ننسى ديفيد هيل، إضافة الى وزير الخارجية الأميركية السابق ريكس تيليرسون، وانتهاءً بوزير الخارجية الأميركية الحالي مايك بومبيو، وصولاً الى اللحظة التي وصلت فيها سفينة التنقيب الى لبنان.
هذه الحقيقة موجودة وثابتة، والتي يؤكدها أيضاً، دور برّي في صوغ الموقف اللبناني الموحد في عهد حكومة الرئيس سعد الحريري السابقة، لناحية تمسّك لبنان بسيادته كاملةً على برّه وبحره، وبحقه في نفطه وغازه، ومنع إسرائيل من السطو على ثروته. وأبلغ هذا الموقف الى الأميركيين. ومعركة الترسيم ما زالت مستمرة وتنتظرها في الآتي من الأيام جولات جديدة من الإشتباك، خصوصاً وأن الأميركيين يتبنّون الموقف الإسرائيلي.
السؤال هنا، لماذا تجاهل رئيس الجمهورية أدوار الآخرين في ملف النفط؟
هناك رأي يتفهّم موقف عون، ويعتبر هذا السؤال ظالماً، وينطوي على اتهام ليس في مكانه أبداً، ذلك أن رئيس الجمهورية حرص في إطلالته على أن يضمّنها «الشكر» لكلّ من كانت له مساهمة في إنجاح هذا الملف.
وفي المقابل، رأي آخر يقول إنّ هذا التجاهل هو حلقة من سلسلة «تجاهلات» سابقة جرت منذ بداية العهد وحتى اليوم، حيث حصرت بعض «الإنجازات» المحدودة التي تحقّقت بالعهد دون سواه، على رغم شراكة القوى السياسية كلها فيها، وعلى سبيل المثال قانون الإنتخابات، وأيضاً إعداد موازنة عامة للبلد بعد انقطاع دام 11 عاماً.
وهناك رأي ثالث يقول، إنه بعد الذي حصل منذ 17 تشرين الأول والأزمة التي فرضت نفسها وحشرت غالبية القوى السياسية في زاوية الإحراج، بما فيها رئاسة الجمهورية التي وضعها الحراك الشعبي منذ 17 تشرين الأول الماضي على منصة التصويب الدائم، فلا شك في أن عون يبحث عن تلقّف أي فرصة لإنزال الرئاسة عن تلك المنصة، وأيضاً لمحاولة إخراج تياره السياسي من الزاوية وشحن واقعه الصعب شعبياً وسياسياً بحيوية ومعنويات عالية. ومن هنا جاء تلقّفه للحظة وصول سفينة الحفر وربطها كإنجاز بالحالة السياسية التي يمثلها رئاسياً وحزبياً. وفي لحظة يعاني فيها الشعب اللبناني حالة من اليأس والإحباط جرّاء الأزمة الإقتصادية والمالية التي تعصف به.
هل ستكون للكلام الرئاسي تداعيات جانبية على المستوى السياسي؟
فريق رئيس الجمهورية يعتبر أن فرضية حصول تداعيات غير مبرّرة وغير واقعية، ذلك أن عون لم يرتكب أي خطأ، بل قدّم الصورة النفطية كما هي، في مقابل كلام آخر لا يوافق عون على ما قاله، يشير الى أن الخطأ قد وقع، وبناء على التجارب السابقة، ليس متوقّعاً أبداً العودة عنه، حتى لو أدّى الإصرار عليه الى حصول سجالات وتداعيات. وكما أن لرئيس الجمهورية مقاربته لهذا الملف، فثمة مقاربات أخرى لدقائق الملف النفطي وتفاصيله قد تعلن وتطرح على الملأ في أوقات لاحقة.