سئمَ المسيحيّون من مناكفات عون – جعجع بعدما دفَعوا ثمنَها من مستقبلهم… ودمائهم! ولطالما قالوا: هذان الرجلان يتحمَّلان مسؤوليةً عن خسائرنا والفراغ الرئاسي وتيئيس الشباب، وعلى الأقلّ، يجب أن يتّفِقا على المصالح المسيحية الأساسية. ولكن، لم يسمع عون وجعجع عبارة «مبروك النوايا»، وإنّما عبارة «ما في نَوى». لماذا؟
عندما انطلق حوار الأخوة – الأعداء، «المستقبل»- «حزب الله»، سألَ البعض: «لماذا لا يتحاور المسيحيون؟ وهل بات الحوار السنّي – الشيعي، وسط الزوابع المذهبية المحمومة، أسهل من الحوار المسيحي؟ وهل خلافات عون وجعجع جوهرية أكثر من خلافات «المستقبل» و»الحزب»… في معزل عن حجم الدم المهدور هنا وهناك»؟
ولكن، سرعان ما جاء الجواب من الرابية ومعراب بمصالحة بين «الديكين» المسيحيَين أراحَت البيئة المسيحية. ومع «إعلان النيّات» أراد الطرَفان توجيه رسالة بـ»أنّنا لا نمزَح»، وأطلقا تعهُّداً بدوام الحوار، لما يَخدم لبنان والمسيحيين في لحظةٍ عصيبة من تاريخهم في المشرق.
إذاً، يَحقّ لعون وجعجع أن يقولا للجميع: «لا تتسرّعوا، ولا تشَكِّكوا في «النوايا». إمنَحونا الوقت لنُثبت لكم أنّنا لا نناور». ويحقّ للرَجلين أن يستاءا من الحمَلات التي تستهدفهما لمجرّد المصالحة، وأن يسألا: «هل هناك متضرّرون من المصالحة المسيحية – المسيحية»؟ وهذا السؤال يُطرَح مقلوباً أيضاً: «هل هناك مستفيدون من الصراع المسيحي – المسيحي»؟
واقعياً، يمكن القول إنّ الذين ينتقدون التقارب العوني – القواتي يتوزَّعون على ثلاث فئات:
1- هناك فئات طوائفية تريد حتماً استمرارَ التصارع المسيحي – المسيحي، ليس فقط بين عون وجعجع، بل بين كلّ منهما والقوى الأخرى الحزبية والمستقلة وبكركي. وعلى هذه الصراعات بنَت هذه الفئات أمجادَها السياسية وتطمَح إلى الاستمرار «على ظهر» المسيحيين وخلافاتِهم.
2- هناك مَن يشكّك في «النوايا» لأنّه لا يصدِّق بأنّ الخصمين المسيحيين انقلبا فجأةً من نظرية «أنا أو لا أحد» إلى التواضع الكامل والتسليم بالشراكة مع الآخر. والدليل هو أنّ عون لا يتنازل عن أحقّيته المطلقة في بلوغ قصر بعبدا. واستتباعاً ليس طرحه الاستفتاء أو الاستطلاع سوى سبيل إلى تأكيد هذه الأحَقيّة. فهو واثق في أنّه الأوّل مسيحياً، ولولا ذلك لما تقدَّم بالطرح. وإذا جرى الاستطلاع -افتراضاً- وأظهرَ أنّ جعجع هو الأوّل مسيحياً، فبالتأكيد لن يرضخَ عون لنتائجه.
كما أنّ أصحاب هذا الرأي يشَكِّكون في جدّية التوافق على الطروحات. ويَستندون إلى السوابق الحديثة، ومنها مثلاً التوافق المصطنع على مشروع «اللقاء الأورثوذكسي» الذي سرعان ما انسحبَ منه جعجع.
3- هناك القوى المسيحية التي تخشى أن يكون العونيون والقواتيون في صددِ تركيب حالةٍ احتكاريةٍ إلغائيةٍ في البيئة المسيحية، تَستوحي الحالات المماثلة في الطوائف الأخرى.
والقوى المسيحية عموماً اختبرَت نماذجَ الاحتكار والإلغاء المكلِفة في مراحل معيَّنة: عون، «القوات»، الكتائب، فرنجية… وصحيح أن لا مجال اليوم لاستخدام البندقية في البيئة المسيحية، لكن في إمكان كلّ مِن القوّتَين المسيحيتين الكبيرتين استخدام أسلحةٍ أخرى للإمساك تماماً بالحالة المسيحية وشطبِ الآخرين من حزبيّين وغير حزبيين. وهذا ما استفزَّ هذه القوى، فعَبَّرت صراحةً عن رفضِها الاستطلاع ونتائجه، وضِمناً عن رفضها «الثنائية» في الحالة المسيحية.
إذا شُنَّت الحملات عشوائياً على المصالحة العونية – القوّاتية يكون المسيحيون متضرّرين، ويكون عون وجعجع مظلومين. وإذا جرى التسليم بالمصالحة عشوائياً، ومِن دون ضوابط، يكون المسيحيّون متضرّرين أيضاً، ويكون عون وجعجع سببَ الضرر مرّةً أخرى.
بالنسبة إلى حكماء المسيحيين، مصالحةُ العونيين والقواتيين مدخلٌ لا بدَّ منه لإحقاق المصلحة المسيحية. لكنّ الخطأ الذي يمكن ارتكابه يكون في سلوكِ عون وجعجع سبيلاً يثبت صحّة النقاط الثلاث:
– الأولى هي أن يكون أيّ منهما أداةً في أيدي آخرين قد يطلبون منه فرطَ التقارب المسيحي.
– الثانية هي أن يتحيَّنَ كلّ مِن عون وجعجع فرصةً للانقضاض على الآخر والاستقواء عليه.
– الثالثة هي أن يستولدَ زواج عون – جعجع «مسيحيّي درجة أولى» في مواجهة الآخرين، أي «مسيحيّي الدرجة الثانية».
والقاعدة السَليمة للقرار المسيحي تبدأ بالخروج من الوصايات، ثمّ بالمرجعية المسيحية الشاملة، حيث عون وجعجع ركيزتان أساسيتان. فالإلغائية المسيحية قد تبدأ ثنائية، إذ يتوافق عون وجعجع على إلغاء الآخرين، لكنّها تتحوّل سريعاً إلى إلغائية أحادية يقوم فيها عون بإلغاء جعجع، أو العكس. هذه هي الدروس المسيحية العتيقة في لبنان: تذكَّروا وذكِّروا!
فنموذج «الجبهة اللبنانية»، بأحزابها وقواها وكبار مفكّريها، ولكن مشفوعةً بالشفافية والديموقراطية، هو الإطار الذي يمكن أن تُستَوحَى منه المرجعية الراعية لمستقبل المسيحيين في لبنان والمشرق.
ولو تمَّ التسليم بحسن النيّات، فإنّ إضاعة الوقت لمعرفة «مَن هو زعيم المسيحيين»؟ فهي لن تقدّم ولن تؤخِّر في التعثُّر الرئاسي، وستكون أشبَه بـ«الوصفة المسيحية الموحَّدة»، في موسم «الوصفة الطبّية الموحَّدة» التي بدأت تتصاعد رائحتُها قبل أن تدخلَ حيِّز التنفيذ… وإنْ كانت في الأصل «وصفة جنرال» لا «وصفة حكيم»!