IMLebanon

عون وجعجع أكثر من رئاسة

معدة المحاصصة اللبنانية قادرة على هضم أعقد الأطعمة. وعبقرية الفساد السياسي تحوّل أكبر الولائم إلى «سناك» خفيف بين وجبتين. كان من الممكن أن يثمر تأييد ترشيح سمير جعجع ميشال عون إلى سدة الرئاسة حلاً لحال الشلل المؤسسي والسياسي في البلد. المعدة اللبنانية التقليدية لا تقبل، ولن ترضى على جري عادتها، بنقل «بازار» الرئاسة من السوق الخارجي إلى زواريب الداخل. فالارتهان للخارج كَعَيب أكبر، يبرر العيوب الصغيرة، كنهب المال العام، وتوزيع حصص المراكز والتعيينات على الأزلام والأتباع.

صحيح أن «فيتويَيْن» اثنين لا يصنعان رئيساً. إلا أن ما تحقق في «معراب»، لو أتيحت له معايير المصلحة الوطنية لا العداوات الشخصية والحسابات الفردية، كان كفيلاً بإحداث ثغرة في جدار الجمود السياسي يتسرّب منها رئيس باختيار اللبنانيين، ومن الممكن أن يتسلل منها بعض الإصلاح، او على الأقل نية بالإصلاح، قضى الجنرال ميشال عون عمره منادياً به، وصار من الصعب عليه التنصّل منه الآن، من دون مخاطرة القطيعة مع جمهور واسع من مؤيديه.

ما جرى في معراب ليس تفصيلاً. ميشال عون وسمير جعجع تاريخ من نهجَين سياسيين متوازيين لا يلتقيان. الأول من عصب الدولة والمؤسسات. من أيام شعار «الجيش هو الحل» إلى معركته الرئاسية الأخيرة، إذ يعتبر أن الدولة القادرة هي الضمانة لطائفته وباقي الطوائف، وهي لا تكون قادرة إلا إذا كانت تمارس سيادتها بصورة كاملة. الثاني متمرّد «حيث لا يجرؤ الآخرون» على كل أنواع السلطة، حماية لطائفته ودفاعاً عن وجودها ولو لزم الأمر الانفصال عن محيط الطائفة الحيوي والوطني والتحالف مع الشيطان. والاثنان، وكل على طريقته، رفضَ الاستتباع. عون كان النفي مصيره، وجعجع اختبر السجن الانفرادي 11 عاماً. بالمحصلة، وإن كانا على طرفَيْ نقيض، بات الزعيمان المتمردان على النظام والمقتحمان عالم السياسة اللبنانية من خارج مؤسساتها العائلية أو المالية، باتا الشرعية السياسية في التمثيل المسيحي.

قبل نحو ثلاثة عقود تحالف عون وجعجع اللذين كانا متربّصين ببعض أيضاً، في مواجهة ترشيح الراحل سليمان فرنجية، وعرقلا عبر حواجز الجيش والقوات في المناطق «الشرقية»، بحسب تسميتها آنذاك، وصول النواب إلى صندوق الاقتراع في «قصر منصور». معارضتهما ترشيح فرنجية الجدّ كانت لأسباب شخصية مختلفة. جعجع خوفاً من الثأر، وعون قلقاً على الدور. اليوم ليس كتلك الأيام. الأحجام تغيّرت والعداوات تبدّلت. واتفاق الطائف ليس مسألة الخلاف. هو يترنّح ولا يسقط، وما زال ورقة التوت التي تستر عورات اللبنانيين. عون وجعجع ليسا مهدّدين بالنفي أو بالسجن. مرحلة الوصاية السورية انقضت. ومع ذلك لم ينطلق بعد مشروع المصالحة اللبنانية. لقاء معراب مدخل لهذه المصالحة ولو جاء متأخراً. وهو يسمح للمسيحيين بطرح أسئلة من نوع: لماذا تسمّي الطوائف الأخرى ممثليها في السلطة، بينما ننتظر نحن تسمية الطوائف الأخرى لممثلينا؟ ولماذا تضع دول عربية «فيتوات» على مرشحينا؟ ومَن يحدّد أهلية مرشح للرئاسة دون آخر؟ أسئلة ذات طابع إقصائي من هذا النوع، تعيدنا إلى مربع الحرب الأهلية الأول.