IMLebanon

عون وجعجع: قصة 12 جلسة حوارية

منذ خمسة أشهر يتحاور التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. اللقاءات التي بدأت تشاورية وشخصية بين مقربين من العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، حول الوضع المسيحي، سرعان ما تحولت بارقة أمل لدى جمهورَيهما بإمكان اللقاء أخيراً بعد صراع يكاد ينهي عقده الثالث. كيف بدأت اللقاءات وإلى أين يمكن أن تؤدي؟

12 اجتماعاً رسمياً عُقدت حتى الآن بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، في أول حوار جدي من نوعه بين القوتين المسيحيتين اللتين تتصارعان منذ نحو ثلاثة عقود.

لا شك في أن المسؤولية الملقاة على عاتق العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، في حوارهما ولقائهما المرتقب، كبيرة، لأن الآمال المعلقة عليهما أيضاً كبيرة، وهي بحجم المخاطر المحدقة بلبنان والمسيحيين.

وإذا كانت أوساط سياسية مطلعة قد وصفت هذا الحوار بأنه مصيري، فإن الزعيمين المسيحيين يدركان تماماً، كما يدرك موفداهما الرسميان النائب إبراهيم كنعان ورئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات ملحم الرياشي، أن أنظار المسيحيين شاخصة إليهما، كي تُفقأ دمّلة الصراع المسيحي وتُطوى صفحة الأحقاد بينهما مرة أخيرة.

كيف بدأ هذا الحوار، وأي نقاط مشتركة تجمع الخصمين التاريخيين؟

قبل نحو خمسة أشهر، عقد كنعان والرياشي، بحكم الصداقة التي تجمعهما، سلسلة لقاءات بدأت في مراحلها الأولى بصفة غير رسمية. وكان محور الكلام بينهما التشاور في الوضع المسيحي عموماً وأزماته المتعددة، وانطلاقاً من الكلام المتداول في أوساط المسيحيين أنفسهم. لم يتوقع الرجلان أن تكون لقاءاتهما باباً لمبادرة على مستوى المصالحة العونية ــــ القواتية، قياساً إلى التجارب السابقة التي قامت بها شخصيات مسيحية وباءت بالفشل.

مع توسّع النقاش، بدا أن ثمة أفقاً يُعوّل عليه، فتوسعت دائرة الكلام وسط تكتم شديد، خصوصاً أنه تزامن مع مبادرة جعجع الداعية إلى نزوله وعون إلى المجلس النيابي وانتخاب أحدهما، وقوله سابقاً إنه مستعد لزيارة الرابية، «ولو حافياً»، وردّ عون عليه بـ»أهلا وسهلاً»، ومن دون شروط.

في لحظة تصاعدية، ارتقى الحوار بين كنعان والرياشي، بعلم عون وجعجع بطبيعة الحال، إلى مرتبة أعلى. جاء الرياشي موفداً رسمياً من جعجع للكلام عن إمكان النقاش الجدي. رحّب عون بالمبادرة، وكلّف كنعان متابعة الحوار، فزار الرياشي الرابية حيث التقى عون في حضور كنعان، وبدأت اللقاءات تتوالى بينهما ليبلغ عددها ثمانية حتى الآن، عقدت بداية في منزل عون، ومن ثم في منزل كنعان، إلى أن تطورت المحادثات فزار كنعان معراب.

انطباع الرياشي الأولي عن عون، أنه دقيق الملاحظة وسريع البديهة ويعرف ماذا يريد. وانطباع كنعان عن جعجع، أنه جدي في الحوار وإيجابي ويطرح الأمور بأكبر قدر من الصراحة. أسهم الطابع الشخصي للعلاقة بين الموفدين الوحيدين اللذين خوّلهما عون وجعجع التنسيق ووضع أسس الحوار وتفاصيله، في دفع الأمور نحو التقدم المطّرد، ولا سيما أنهما أديا دوراً رئيسياً في تقريب وجهات النظر بين الخصمين.

إشارات تبشّر بإمكان الوصول إلى تقارب حول الإصلاح والإنماء وقانون الانتخاب

حدّد عون معادلة الحوار

بضرورة التفاهم حول الجمهورية ولاقاه جعجع موافقاً

انطلقت المفاوضات من كلام في الشأن المسيحي العام، ولم تكن رئاسة الجمهورية محورها فحسب، وإن كان المسيحيون جميعهم يعوّلون على هذا البند وحده أساساً للخروج من الازمة الراهنة. لكن المحاورين أرادا إعادة القراءة منذ لحظة الخلاف بينهما وحتى اليوم، والغوص في ملفات أساسية، يجب التوصل إلى قواسم مشتركة بينهما حولها لحماية الوضع المسيحي واللبناني، من دون أن يعني ذلك أنهما تجاهلا موضوع رئاسة الجمهورية أو دارا حول الموضوع مواربة. بل إنهما طرحاه بصراحة ومن دون شروط مسبقة ومن دخول في الأسماء.

رؤية عون أن الموضوع مطروح على خلفية تقويم المرحلة السابقة منذ الطائف وإمكان الخروج بخلاصة مشتركة لتوصيف موقع الرئيس ودوره وشخصه، وعمّا إذا كانت هذه الأمور الثلاثة على مستوى تطلعات المسيحيين، وعمّا إذا كان التمثيل المسيحي منذ ذلك الوقت يعبّر عن المسيحيين فعلاً.

ورؤية جعجع أن رئاسة الجمهورية هي في سلّة النتائج وليست في سلّة المسببات، ليبنى على معالجة الأسباب تثمير النتائج. والقوات لا تعترض على نظرة عون للرئيس القوي، خصوصاً أن رئيسها قدّم ترشيحه تحت عنوان الجمهورية القوية.

حدّد عون معادلة الحوار بضرورة التفاهم حول الجمهورية، ولاقاه جعجع موافقاً. لذا تعدّدت عناوين البحث إلى أن اختصرت بورقتي عمل قدمها الطرفان، وتناولت عملية تكوين السلطة، وخيارات المسيحيين السيادية والوطنية بأبعادها كافة، والإصلاح، قانون الانتخاب، اللامركزية الإدارية الموسعة، الإنماء المتوازن، وملف النازحين وتداعياته.

ومع كل جلسة نقاش، كانت المحادثات تتقدم تدريجاً، لتنكسر معها كل الخلفيات السابقة، ويتكشّف تدريجاً أن ثمة نقاط التقاء غير قليلة وقواسم مشتركة تحتاج إلى بلورة، حول الإصلاح والإنماء وقانون الانتخاب الذي يبدو أن هناك قاعدة يمكن الالتقاء حولها عليه. وهناك إشارات تبشّر بإمكان الوصول إلى تقارب، رغم تمايز لا بأس به في بعض الملفات الأخرى، ومنها السيادية. ولدى زيارة كنعان الأخيرة لجعجع، قدم إليه ورقة عمل تختصر النقاشات ونقاط الالتقاء بين الطرفين والقواسم المشتركة في نظرتهما إلى المواضيع التي حدد البحث فيها، ومكامن الخلل والاختلاف.

يحيط الطرفان محادثاتهما بسرية تامة، ولا سيما عند انطلاقها، وعملاً على إبعاده عن الضوء الإعلامي والسياسي، في ظل السهام التي يمكن أن تطلق عليه. وهذه السرية جعلت عون وجعجع يمتنعان في الأسابيع الأولى للقاءات كنعان والرياشي عن الإجابة بالإيجاب عن أي سؤال عن هوية المفاوضين وحقيقة ما يجري. وقد أدى كشف الحوار وموجباته لاحقاً غرضاً إيجابياً، إذ إن حلفاء الطرفين باركوا المسعى الحواري وأيّدوه. إلا أن الفريقين ينفيان نفياً قاطعاً أن يكون أي طرف عربي أو غربي أو فاتيكاني قد دفع في اتجاه الحوار، «فهو شأن داخلي وانطلاقته محلية بحت». لكن معظم السفارات انشغلت في رصده لاحقاً، وأكثر الديبلوماسيين المعتمدين من الاستفسار حول طبيعته ومستقبله.

ما هي مسببات الحوار التي دفعت عون وجعجع إلى الحوار اليوم وما هو هدفه، وخصوصاً أن الفريقين يتكئان على تأييد من جمهورهما؟ وأي قواسم مشتركة تجمعهما، وهل الأولوية فقط لرئاسة الجمهورية؟

لا شك أن الفراغ الرئاسي أسهم كثيراً في دفع الأمور، وكذلك خطورة الوضع الإقليمي والاستهدافات الأمنية التي جعلت المسيحيين يعون حقيقة أهمية الحوار. ويقول كنعان: «أي مبادرة تهدف إلى التلاقي من أجل تحقيق الحد الأدنى من التوافق من أجل الوحدة المسيحية مرحب بها في أي وقت كان». وبدوره يرى الرياشي «أن الفراغ الرئاسي سبب مباشر للحوار، لكنه ليس المحور الوحيد للنقاش السياسي، وهو سيكون نتيجة من نتائجه، لأن الهدف تقليص مساحات اللاثقة الهائلة المتراكمة منذ سنوات بين الطرفين».

وقد حفلت الأيام الأخيرة بتكهنات حول عقد اللقاء بين عون وجعجع ومكانه وزمانه. وثمة خشية أن تُسهم كثرة اللغط والتأويلات، وحتى اللقاءات، بإبطال مفعول اللقاء أو حتى بالتعامل معه بأقل مما يستحق من جدية. نظرة الطرفين مختلفة. يقول كنعان: «نتفهم ضغط الرأي العام المسيحي المتعطش لرؤيتنا على توافق، لكننا حرصاً على نجاح الخطوة، لن يخضع عون وجعجع، ونحن أيضاً لضغط الرأي العام. نحن مع سرعة التحرك ولسنا مع التسرع، فعقد اللقاء بين عون وجعجع لن يكون خاتمة المطاف، لأن الجهد لم ينصبّ على عقد الاجتماع بينهما، بل على الوصول إلى تقارب سياسي بين التيار والقوات حول الدور المسيحي والملفات السيادية وغيرها».

ويلفت الرياشي إلى «أننا بدأنا الحوار انطلاقاً من أربعة معايير أساسية: المصارحة الكاملة، النقاش دون أفكار مسبقة، وعدم جعل الاختلافات سبباً للخلاف، وتحصين آداب الخطاب السياسي وتحسينه بطريقة حضارية تليق بالمسيحيين. أما لقاء جعجع وعون فهو جزء من مسار المحادثات لكي يأتي تتويجاً لمراحلها الأولى واستكمالاً لها».

النتيجة الأولية للحوار أن القوات والتيار أسقطا نحو 140 دعوى قضائية رفعت منذ أن بدأ الخلاف بينهما، وهي بادرة ستتبع اليوم بتمثيل رسمي، هو الأول من نوعه، لعون في الاحتفال الذي تقيمه القوات في معراب. قد يعتقد البعض أنهما خطوتان رمزيتان. لكن ما يحصل حتى الآن نوعي بحسب الطرفين اللذين يصران على أنهما، ولو اختلفا على رئاسة الجمهورية، فإنهما طويا صفحة الماضي ويريدان بناء مستقبل جديد قائم على حق الاختلاف وعلى عدم التماهي والالتقاء على الحد الأدنى من النقاط التوافقية.

من عاش حقيقة الصراع الدموي والسياسي والإعلامي بين الطرفين المسيحيين يريد فعلاً أن يصدق أن ما يحصل حقيقة، ولو لمرة واحدة.