Site icon IMLebanon

عون والحكومة: محاولة أخيرة لعودة الدولة

أيّاً تكن التحليلات المتداوَلة حول الظروف التي أدّت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بما فيها قول البعض إنه أوّل رئيس صُنِع في لبنان، فإنّ المؤكّد هو أنّ العماد عون هو أوّل رئيس سمح الخارج للبنانيين بصُنْعِه. ذلك أنّ هذا الخارج المؤلَّف من تيّارَيْن اقليميَّيْن دوليَّيْن يمتدّان من روسيا إلى ايران وسوريا من جهة ومن الولايات المتحدة الاميركية والغرب الى السعودية وتركيا من جهة أخرى، هذا الخارج الذي يتصارع دمويًّا تحت مسميّات محليّة مختلفة في سوريا والعراق واليمن، ويتصارع سلميًّا في لبنان تحت مسميّات 8 و14 آذار، هذا الخارج لم يستطع أيّ طرف فيه بمفرده طيلة سنوات الفراغ الرئاسي الماضية أن يستأثر بتعيين رئيس للجمهورية في لبنان في ظلّ عجز الكلّ عن تحقيق أيّ انتصار حاسم في الساحات الإقليمية المشتعلّة.

وفي إطار هذا الانتصار المستحيل لأيّ من الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة في المنطقة، تَمَكَّن محور المقاومة مؤخراً من إفشال مشاريع المحور المضاد في سوريا والعراق واليمن، محقّقاً مؤخراً إنجازات عسكريّة ميدانية لا يُستهان بها، وهي إنجازات دفعت ببعض الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا، ومعها حلفاء اقليميون كالسعودية وغيرها، إلى الاستخلاص بأنه من العبث الاستمرار في تَرْك لبنان رهينة الفراغ في ظل الانقسامات المتفاعلة فيه والمخاطر المحدقة به، بينما الإشارات الآتية من محور المقاومة بلسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كانت تدعو تكراراً إلى عدم الانتظار وعدم المراهنة على المتغيّرات الإقليميّة وإلى حلّ الموضوع الرئاسي اللبناني بمعزل عنها، مؤكداً بالمقابل بأن الممرّ الإلزامي لهذا الاستحقاق يكون بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.

لهذا كلّه وغيره، جاء الطرح الفرنسي السعودي في نهاية العام الماضي ليقترح، على الجانب الايراني أوّلاً ثم على اللبنانيين، زواجاً رئاسياً بين الاستراتيجيتَين المتصارعتَين في لبنان والمنطقة على قاعدة: «لكم رئاسة الجمهورية ولنا رئاسة الحكومة»، «لكم سليمان فرنجية ولنا سعد الحريري» الذي لم يكن مخترعَ صيغة الزواج تلك، على نحو ما قيل يومها، بقَدَر ما كُلِّف علَناً حينذاك بتسويق هذا الزواج واختبار نجاحه لدى الفرقاء اللبنانيين.

حينذاك لم ينجح الرئيس السابق سعد الحريري في تسويق هذا الزواج الأوّل الذي كان يُعتبر تنازلاً نوعياً من شأنه إغراء فريق المقاومة وحلفائها، لأنّ حزب الله أصّر على دعم ترشيح العماد ميشال عون من باب الأفضلية في حجم التمثيل المسيحي والعُمر المتقدّم للعماد، وليس من باب المفاضلة السياسية بينه وبين فرنجية والتي يتساويان فيها لدى المقاومة وفريقها. وكانت النتيجة أن عادت الرئاسة الى سبات عميق يقارب السنة، اعتقد خلالها الفريق الخارجي الراعي لسعد الحريري أنه ربما تطرأ تطورات تجعل حزب الله يعود عن موقفه ويعيد حساباته.

خلال أشهر الفراغ التي تلت عرض الزواج الاول لم يتعدّل شيء في المشهد الاقليمي واللبناني سوى أن فريق المقاومة بات أفضل حالاً ممّا كان عليه، فعاد ذلك الخارج الى طرح زواج رئاسي جديد، ولكن الزواج هذه المرّة بين عون والحريري، ميشال عون لكم وسعد الحريري لنا، مع الفارق أن هذا الطرح الجديد لم يأتِ مُعْلناً وصريحاً على غرار الطرح السابق الّذي تلقى طارحُوه صفعةً لم يكونوا يتوقعونها، فجاء الطرح الجديد خجولاً وموارباً خوفاً من الفشل، حتى بدا وكأنّه من عِنديِّات سعد الحريري. وقيل عندها لسعد: «إذهب واختبر، فإن نجَحْتَ نتبنَّ، وإن فشلت فنحن أبرياء منك ومن هذا الطرح».

مع وصول طرح الزواج الثاني الى لبنان على مَتْن الحريري، كان خوف الخارج عارماً من أنّ فريق المقاومة ربّما قد تكون غرّته بعض الانتصارات الأخيرة في سوريا واليمن والعراق بحيث قد يرفض الزواج بين عون والحريري كما رفض العرض الأول مع فرنجية. كان ذلك الخارج يستبعد إلى حدٍّ كبير أن يوافق فريق المقاومة على هذا الطرح، ليس لأن حزب الله يُراوغ حيال العماد عون، بل لأنهم كانوا يعتقدون أن التوقيت ربّما قد لا يناسبه في ظل تحسن ظروفه القتالية في سوريا وغيرها. إلاّ أنّ الصدمة الايجابية التي تلقّاها ذلك الخارج كانت بموافقة حزب الله على هذا الزواج، فكانت رئاسة الجمهورية للعماد عون ورئاسة الحكومة لسعد الحريري، أقلّه حتى الانتخابات النيابية المقبلة.

وللغرابة القصوى، حصل هذا الزواج الاستراتيجي بين عون والحريري، أي بين 8 و 14 آذار، بمُباركة أبوَيْن إقليميَّيْن هما إيران والسعوديّة بينما حلفاؤهما، يتقاتلان بشراسة في كل مكان في المنطقة باستثناء خطّ التماس البارد بينهما في لبنان، باردٌ لأسباب ومصالح تتعلّق بكلِّ منهما. إذن، الأهل يتذابحون في المنطقة ويسمحون لأولادهم بالزواج في لبنان على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، زواج قسري أملته الظروف وليس الغرام المتبادل، فأصبح العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وسعد الحريري رئيساً مكلّفاً بتشكيل الحكومة، فماذا بعد؟

في المفهوم السياسي والدستوري، فإنّ المولود الأول المفترض أن ينتج من زواج عون – الحريري هو الحكومة، وهي حكومة العهد الأولى بما يعنيه ذلك من أنّ صورتها لدى عامة الناس ستكون المؤشر على نجاح العهد الرئاسي أو فشله.

في خطاب القسم كما في اللقاء الجماهيري في قصر بعبدا التزم الرئيس عون بالدستور وقدسيّته وبتطبيق القانون على الكبير والصغير ورفع أيدي السياسيّين عن قطاعات القضاء والعدالة والأمن، والحؤول دون عرقلتهم لبناء الدولة وقطع دابر الفساد وتحسين الخدمات العامة، واضعاً في أولوياته الوحدة الوطنية ومشاركة الجميع من دون إقصاء أحد وصولاً الى إجراء الانتخابات اللبنانية في موعدها.

في المقياس الداخلي اللبناني، يجب ان تكون الحكومة بأشخاصها على صورة تلك العناوين وليس على عكسها. لبنان بلد صغير، والكُلّ فيه يعرف الكُلّ. وأسهل ما يكون على الفرقاء السياسيين والطوائف المشاركين في الحكومة أن يسمّوا ممثّليهم فيها. في كل فريق أفاضل وأراذِل. أنْ يتمَثّل الفرقاء والطوائف بأفاضلهم فذلك ما يُسمى مشاركة وتوازن. وأن يتمثّل الفرقاء والطوائف بأراذِلهم فذلك ما يُسمى مقاسمة ومحاصصة. الأولى تبني والثانية تهدم.

ليس الأشخاص بيت القصيد في هذا المقال، بل أساسيات الحكومة الأخرى.

كما سبق وقُلنا، هذه الحكومة ليست من حكومات الزمن السوري ولا من حكومات اتفاق الدوحة التي كانت ترعاها الضمانات الخارجية المسبقة لهذا الفريق وذاك. هي حكومة على غرار الرئاستَيْن، لا غالب ولا مغلوب، لكنها لا تقترن بأيّ ضمانة خارجية لأي فريق، ما عدا ما يلتزم به الأطراف المشاركون فيها حيال بعضهم البعض. ولأنّ التجارب السابقة مريرة بين 8 و14 آذار، ولأنّ الثقة بينهما ستظلّ مفقودة، ولأنّ الصراع الإقليمي بين رعاتهم محتدم وخاضع للتقلّبات، فإنّه من الطبيعي أن يسعى كلّ طرف لبناني إلى حيازة ضمانته بنفسه في الحكومة من خلال الحصة العددية من جهة والحصة النوعية المتعلّقة بطبيعة الوزارات التي سيحصل عليها من جهة أخرى.

ماذا تعني هذه الضمانة لكل فريق؟

بكل بساطة الضمانة تعني أن لا يستطيع الشريك الآخر في الحكومة، أكان 8 أو14 آذار، أن يستأثر بمفرده بقرارات الحكومة، سواء على صعيد إدارة الدولة من جهة أو على صعيد الانقلاب الإستراتيجي وجرّ الدولة الى المعسكر الإقليمي المعادي من جهة أخرى.

ورُبّ قائلٍ هنا بأن نفصل إدارة الدولة عن الوضع الإقليمي، وهذا صحيح وضروري جزئيّاً، لكن ما لا ينبغي تجاهله هنا أنّ في هذه الحكومة فريقين وسقفين إستراتيجيَّين، كما رئاستَيْ الجمهورية والحكومة، وهي تعبير عن زواج إقليمي وداخلي، ولا يستقر أي سقف إلاّ بوجود الأعمدة التي تدعمه، والأعمدة هنا تعني تركيبة الحكومة من حيث وجود فريقَين فيها وعدد الوزراء من كل فريق ونوعية الوزارات التي يحملونها.

ورُبّ قائل آخر بأنّ الرئيس الجديد، العماد ميشال عون، ينبغي أن يكون هو الضمانة للجميع في هذه الحكومة. والجواب هنا أنّ العماد عون هو ثقة الجميع، والثقة هنا تعني المواصفات والقناعات الشخصية التي يتمتع بها والتي عبّر عنها في مواقفه الماضية والحاضرة، لكن الثقة بشخصه شيء والضمانة على غيره شيء آخر.

لا يستطيع الرئيس عون أن يكون بشخصه فقط، أو أن يدعي بأن يكون، أو نرغب له أن يكون، ضمانةً على أيّ من فرقاء الحكومة، ما لم يستحوذ منهم على الأدوات العملية لتنفيذ تلك الضمانة إذا ما حاول مستقبلاً أي فريق في الحكومة الانقلاب على الآخر.

حكومة لا غالب ولا مغلوب، وحكومة أولى للعهد، مطلوب منها تنفيذ ما جاء في خطاب القسم وطمأنة الجميع، تفترض ان يُعطى فيها لرئيس الجمهورية الإمكانية ليلعب دور الضامِن والحَكَم بين الفرقاء ودورَ المحايد المُرَجِّح لمصلحة الدولة والناس. وما دام أنْ ليس في الدستور ما يُعطيه القدرة للعب هذا الدور، فإن من الواجب تخصيصه بالعدد الكافي من الوزراء لمنع سيطرة أي فريق على قرارات الحكومة سواء بأكثرية النصف زائدا واحدا أو بأكثرية الثلثَين. هذا التخصيص العددي هو الكفيل بإعطاء رئيس الجمهورية الدور الوسطي الذي يحمي من خلاله الدولة والناس والقانون والدستور، كما يحمي مختلف شركاء الحكومة من الانقلاب على بعضهم البعض عند أوّل انعطاف في التطوّرات الإقليمية.

وما ينبغي ربّما للرئيس المكلّف سعد الحريري أن ينتبه إليه، إن أراد تسريع انطلاقة العهد والدولة، هو أنّ هذه الحكومة، حكومة لا غالب ولا مغلوب، لا يمكن أن تكون شبيهة بالحكومات التي تلت الخروج السوري في العام 2005، وحيث كان هنالك فريق 14 آذار يبتزّ الجميع مستثمراً اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومأخوذاً بنشوة الدعم الخارجي، فأطاح يومها التوازنات الوطنية وصولاً الى تجاهل رئيس الجمهورية العماد إميل لحود في قصر بعبدا، وانتهاءً بوضع البلاد على حافة الحرب الأهلية في 7 أيار 2008.

كما أنّ هذه الحكومة لا يمكن ان تكون شبيهة بالحكومات التي أعقبت اتفاق الدوحة عام 2008 والتي بقي فيها ذلك الفريق نفسه، 14 آذار، منتشياً بزخم الدعم الخارجي وسلاح المحكمة الدولية والتحريض السني الشيعي، وصولاً الى المراهنة على سقوط الأسد في سوريا وتطويق المقاومة في لبنان…

على هذا الأساس، كما سبق وقلنا، في حكومة العهد الأولى ينبغي أن تكون الضمانات منها وفيها، وبالتالي سيكون من الخطأ للرئيس المكلّف التفكير بتشكيل حكومة في لبنان من خارج معادلة لا غالب ولا مغلوب على غرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2005 وما بعدها، والتي لم تُراعَ فيها التوازنات العددية والنوعية فَشَلَّت البلد وأوصلته الى حافة الانهيار والحرب.

ومخطئ أكثر مَن يمكن أن ينصح الرئيس المكلَّف بالتمترس خلف الرئيس عون لابتزاز تنازلات من الفريق الآخر على قاعدة أنّ مَن لا يُقدِّم هذه التنازلات إنما يعرقل انطلاقة العهد ورئيسه.

هذه الحكومة المنتظرة تختلف عن سابقاتها في كونها ليست حكومة مفروضة أو مضمونة من الخارج، ولا هي نتيجة توافق اقليمي ودولي بقدر ما هي ثمرة زواج رئاسي قسري أملته ظروف خارجية بين محْورَيْن متصارِعَيْن في المنطقة، في سوريا والعراق واليمن، أحدهما هاجَم ولم يربح والثاني دافَع ولم يخسر، فكان الزواج القسري في لبنان على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.

حكومة لا غالب ولا مغلوب تعني أنه إنْ حصل فريقٌ فيها على الثلث المعطل لَوَجَبَ حصول الفريق الآخر على ثلث معطّل أيضاً.

حكومة لا غالب ولا مغلوب تعني أن لا أحد من الفريقين، لا 8 ولا 14 آذار بإمكانه بمفرده بلوغ أكثرية النصف زائدا واحدا أو الثلثَين للتحكّم بقرارات مجلس الوزراء من دون أصوات رئيس الجمهورية أو أصوات الفريق الآخر.

حكومة لا غالب ولا مغلوب تعني تخصيص رئيس الجمهورية بوزارات العدل والأمن، وعدالة المشاركة بين الفرقاء في الوزارات الهامة والثانوية على قاعدة تخصيصها للأفاضل وليس للأراذل في كل فريق.

وبخلاف ذلك، يُخشى أن تكون الحكومة المُنتَظَرة بمثابة الخطوة الأولى للعهد الرئاسي إلى الوراء، والخطر حينها لن يكون فقط على الرئيس، بل على كثير من الناس الذين وضعوا كل آمالهم في قيام الدولة، أمّا الخطر الأكبر فهو على البلد ككيان وكدولة، ذلك بأنّ أسبابا كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بأنه إن فشل اللبنانيون هذه المرة في إعادة تكوين دولتهم ولملمة وطنهم، فإنّ تلك ستكون المحاولة الأخيرة التي ستسبق نشوء لبنان آخر غير الذي نعرفه، لبنان آخر ربّما يصبح اللبنانيّون أنفسهم أقليةً فيه.

(&) المدير العام السابق للأمن العام