أقصى ما يمكن استخلاصه من السجال السياسي المتبادل الاخير بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، والذي «أنجب» اللقاء السابع عشر بينهما بعد غد الاثنين، هو انّهما دخلا الى السلطة معاً، فإما يبقيان معاً حتى نهاية الولاية الرئاسية، او يذهبان الآن معاً، اذا ظلّ الخلاف بينهما مستحكماً.
فعون قال للحريري، «أقدم على تأليف حكومة إنقاذ وفق المعايير والاصول الدستورية او اعتذر ليتولّى غيرك هذه المهمة». وردّ الحريري، ان يسهّل تأليف حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين التي يقترحها، او الذهاب الى انتخابات لرئاسة مبكرة، فيخرجان معاً من التأليف الحكومي ومن السلطة، ليأتي غيرهما ويتولّى مهمة الإنقاذ.
واللقاء السابع عشر بين المؤلفَين الحكومييَّن المتخاصمَين الذي مهّد له إبداء بعض «المشاعر الرئاسية الإيجابية» التي جبّت السلبيات التي انطوت عليها الرسالة الرئاسية الى اللبنانيين، وردّ الحريري عليها، انتهى الى اتفاق على اللقاء بعد غد الاثنين، الذي لم يجزم الحريري صراحة في انّه سينتهي بإصدار مراسيم الحكومة الموعودة. فالرجل اراد لهذا اللقاء ان ينعقد في اليوم التالي للقاء السابع عشر، ولكن عون ارتأى ان ينعقد الاثنين، افساحاً في المجال لمزيد من الاتصالات، علّها تثمر اتفاقاً على التشكيلة الوزارية جملة وتفصيلاً، حتى ولو اضطر الامر الى ان تتكوّن من 20 وزيراً بدلا من 18 وزيراً، وهي تشكيلة يعلن الجميع انّهم اتفقوا على ان تكون من الاختصاصيين غير الحزبيين، باستثناء رئيسها الحريري زعيم تيار «المستقبل»، على قاعدة انّه «يحق للمؤلف ما لا يحق لغيره»، تبعاً لحالته التمثيلية الكبرى في البيئة التي ينتمي اليها، وفق تأكيد خصومه قبل مؤيّديه. وكذلك على اساس «الضرورة التمثيلية» على وزن «الضرورة الشعرية»، التي تتيح للشاعر ان يكيّف قصيدته او اي بيت شعري فيها، مجيزاً لنفسه الخروج عن بعض الاصول اللغوية لغاية تجميل الصورة الشعرية او تكييف المعاني او بما ينسجم مع الغاية المنشودة من القصيدة.
غير انّ ظاهر المواقف مثل باطنها، لا يبعث على التفاؤل بحصول اتفاق في هذه العجالة يفضي الى ولادة الحكومة الموعودة في اللقاء الـ 18 بعد غد، لأنّ جميع القوى التي أعلنت قبولها بحكومة الاختصاصيين غير الحزبيين تبدو انّها مقتنعة بأنّ مثل هذه الحكومة ستكون غير قادرة على الإنجاز اذا لم تحظَ بدعم الأفرقاء السياسيين، خصوصاً أنّها ستكون في صدد اتخاذ خطوات غير شعبية سيفرضها الواقع وبرنامج صندوق النقد الدولي وربما مجموعة الدول المانحة، لمعالجة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه البلاد. وربما لهذا السبب ذهب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الى نصيحة الحريري، بتأليف حكومة تكنوسياسية تحت عنوان إشراك جميع القوى السياسية، المتهمة اساساً بالتسبب بما آلت اليه الاوضاع، في تحمّل المسؤولية، فلا يقف اي من هذه القوى على التلة متبرئاً من الجريمة التي شارك في ارتكابها في حق البلد واهله، والتصرّف على اساس ان لا علاقة له بالانهيار الحاصل.
ومبعث هذا الكلام، هو انّ هناك فعلاً قوى سياسية كانت شريكة في حصول الانهيار، تنبري الآن الى الوقوف على الحياد والمحاضرة في العفاف والتصفيق للمحتجين الجوعى في الشارع، مستغلة الامر للهروب من يوم الحساب الذي بدأ يقترب، والذي يعكسه الكلام الغربي الأخير عن فرض عقوبات على القوى السياسية التي تعرقل تأليف «حكومة المهمّة» او حكومة الإصلاحات الموعودة، وتالياً تلويح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، صاحب المبادرة الفرنسية المتعثرة، باللجوء الى «تغيير في المقاربة والنهج» في التعاطي مع الأزمة اللبنانية، مؤكّداً تمّسكه بـ»الوقوف الى جانب الشعب اللبناني» ومتهماً القيادات السياسية اللبنانية بالفشل. ولكن اخطر ما قيل للحريري في هذا المجال، هو انّ حكومة الاختصاصيين اذا لم تنجح في مهمتها الانقاذية، فإنّ الشارع سيُسقطها بحيث لا تعيش طويلاً، وانّ فشلها سيقضي سياسياً على البلد وعلى رئيسها الذي يكون قد حمل كرة النار بمفرده. فغالبية القوى السياسية قد لا تقدّم لهذه الحكومة أي دعم عملي أو حتى الدعم اللفظي، طالما أنّها غير ممثلة مباشرة او حتى مداورة فيها، خصوصاً وانّها تشعر بخطر وجودي يتهدّدها، وهي تقف على ابواب الاستحقاقات الكبرى النيابية والرئاسية التي ستذخر بها سنة 2022، ان لم يتمّ تقريبها كلها أو بعضها الى هذه السنة، وهذه القوى ترتكب الآن مخالفة دستورية في سعيها الى تأخير او تعطيل إجراء الانتخابات النيابية الفرعية لملء 10 مقاعد نيابية شغرت بالاستقالة وبالوفاة في 7 اقضية ودوائر انتخابية منذ العام الماضي وحتى الشهرين الاخيرين المنصرمين من هذه السنة.
ومع انّ السيد نصرالله، عندما نصح الحريري بالحكومة التكنوسياسية، انما كان على اساس إشراك القوى السياسية جميعاً في تحمّل المسؤولية، وعدم الهروب من المشاركة في القرار الإنقاذي، فإنّ هذه القوى أو بعضها تجنباً للتعميم، لا تزال تتعاطى في هذا المجال على اساس المحاصصة، بحيث أنّها تريد أن تكون مشاركتها في الحكومة على هذا الاساس، وليس على انّها تريد ان تكون شريكة فعلاً في ورشة الإنقاذ والإصلاح لانتشال البلاد من الانهيار الذي انزلقت اليه بفعل سياسات هذه القوى وفسادها المتمادي منذ عشرات السنين.
لكن الخيارين البديلين، بتفعيل حكومة تصريف الاعمال ومن ثم الذهاب الى تعديلات دستورية لتحديد الضوابط في عملية التكليف والتأليف الحكوميين، دونهما صعوبات كثيرة. فرئيس حكومة تصريف الاعمال الدكتور حسان دياب لم يجرؤ حتى الآن على عقد جلسة لمجلس الوزراء للبحث في الكوارث التي حلّت بالبلد، متحاشياً حمل كرة النار التي يتهيّبها منذ استقالته، علماً انّ تفعيل الحكومة المستقيلة يتطلب تعديل الدستور، لجهة ان تمارس الحكومة المستقيلة صلاحياتها كاملة الى حين تأليف الحكومة الجديدة، وليس تصريف الاعمال في الاطار الضيّق، وهو أمر ليس سهل التحقيق لكثير من الاسباب السياسية التي تعوق الاتفاق على تعديل من هذا النوع.
اما تحديد الضوابط أو المِهَل للتأليف، حتى اذا انقضت دون حصوله، يصبح الرئيس المكلّف معتذراً حكماً، فهو امر يتطلب ايضاً تعديلات دستورية دونها عقبات سياسية وطائفية، وهي عندما طُرحت في مؤتمر الطائف تصدّى لها الرئيس الراحل صائب سلام ومعه نواب آخرون من بيئته وبيئات أخرى، رفضوا تقييد الرئيس المكلّف بمهلة تجعله تحت رحمة موقف رئيس الجمهورية، بحيث أنّ الأخير اذا اجرى الاستشارات النيابية الملزمة للتكليف وجاءت نتائجها بتسمية شخصية لا يؤيّدها، او في حال اختلف معه على التشكيلة الوزارية، يمكن في هذه الحال ان يعطل التأليف برفض ما يُعرض عليه من تشكيلات، لتنتهي مهلة التأليف ويصبح الرئيس المكلّف في حكم المعتذر.
في اي حال، يقول بعض «الطائفيين»(نسبة الى اتفاق الطائف)، انّ هاتين المسألتين هما ثغرتان من الثغرات التي انطوى عليها اتفاق الطائف والدستور الذي انبثق منه، والتي يفترض ان تُعالج كلها بتعديلات دستورية متوازنة تجري في اجواء وفاقية وتوافقية، بحيث يقبل بها الجميع، سواء كانوا طوائف او قوى سياسية، خصوصاً في هذا الزمن الذي تحولت فيه كل مواقع السلطة والادارة العامة إقطاعيات طائفية وسياسية، تعوق اقامة الدولة المدنية التي تصبح الكفاية الأساس في تولّي المسؤولية الدستورية او الوظيفة العامة، بعيداً من الطائفية المقيتة التي تفرّق بين اللبنانيين.