Site icon IMLebanon

عون والتموضع الجنبلاطي

نجح النائب وليد جنبلاط بتحييد نفسه عن ٨ و ١٤ آذار. ولم يعد في وارد، خصوصاً بعد تجربة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي خَلخلت علاقته مع الرياض، ترجيح كفة أيّ من الفريقين في القضايا الكبرى، الأمر الذي ولّد ارتياحاً لدى الطرفين وأراح اللعبة السياسية. وبالتالي، السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يتموضع العماد ميشال عون مثل جنبلاط؟

ما تقدّم لا يعني تشجيع الوسطية التي لا وجود لها أساساً من دون ميزان قوى حقيقي، حيث أنّ الوسطية تستمد قوتها من التوازن القائم وينتهي دورها لحظة إطاحة هذا التوازن. والمفارقة أنّ التوازن الحالي ليس وليد لعبة ديموقراطية أفرزتها صناديق الاقتراع النيابية، كما كانت الحال في دورتَي ٢٠٠٥ و ٢٠٠٩، وقضَت باغتيال شخصيات نيابية لإنقاص الأكثرية، وترهيب جنبلاط للابتعاد عنها.

فالتوازن اليوم هو من طبيعة أخرى. ١٤ آذار تدرك أنّ إطاحتها هذا التوازن عبر الانتخابات والمؤسسات يدفع «حزب الله» إلى استخدام سلاحه قَطعاً للطريق على أيّ محاولة ترمي إلى الحد من دوره وتغليب مشروع الدولة وتطويق مشروعه بكلّ أبعاده المحلية والإقليمية.

و«حزب الله» يدرك بدوره أنّ إطاحته هذا التوازن عبر القوة يحوّل بيئته هدفاً للتكفيريين، لأنّ إزاحة الاعتدال السنّي المتمثّل بتيار «المستقبل» سيؤدي حكماً إلى تعويم التكفيريين وتحوّل بيئة الحزب مجدداً هدفاً مباشراً لهم.

وبمعزل عن طبيعة الواقع اللبناني وظروف «حزب الله» أو أولوياته المتصلة بقتاله خارج الحدود اللبنانية، إلّا أنه، وخلافاً للواقعين السوري والعراقي، أدرك الحزب أنّ مواجهة التطرف السنّي تكون على يد الاعتدال السني وليس عن طريقه، الأمر الذي دفعه إلى التنازل عن الحكومة التي شكّلها وأعاد مفاتيح السراي إلى الأكثرية السنية المنتخبة شعبياً، وبالتالي أعاد تصحيح التوازن الذي كسره بنفسه وكانت الانتخابات النيابية قد أفرزته في دورتين متتاليتين.

وعليه، فلا الديموقراطية قادرة على تغليب مشروع ١٤ آذار، ولا القوة قادرة على تغليب مشروع ٨ آذار، وهذا ما يفسّر إلى حد بعيد رغبة الطرفين أو مصلحتهما بتجميد الوضع انتخابياً وسياسياً وعسكرياً بانتظار أن تنجلي الصورة الإقليمية.

ولكن على رغم ذلك لا يستطيع «حزب الله» التساهل مع فرضية انتقال عون من موقع الحليف إلى الموقع الوسطي، ليس فقط حرصاً على الغطاء المسيحي، بل لأنّ ميزان القوى النيابي – السياسي يصبح مختلاً لمصلحة ١٤ آذار، الأمر الذي يجعله أمام خيارين: إستخدام الفيتو المذهبي أو السلاح، فيما خروج جنبلاط من فريق ١٤ آذار أدى إلى فقدان هذا الفريق الأكثرية لمصلحة التوازن مع ٨ آذار، وجعل رئيس الاشتراكي «بيضة القبّان» في اللعبة الداخلية.

فخروج عون من التحالف مع «حزب الله» هو أشبَه اليوم بخروج الدكتور سمير جعجع من التحالف مع «المستقبل»، وبالتالي المسألة بالنسبة للحزب مصيرية في سياق اللعبة الداخلية، وهذا ما يفسّر إلى حد بعيد تردّد عون في حَسم خياراته، كونه يدرك مدى كلفتها على الحزب وعليه شخصياً، ويفسّر أيضاً عدم رغبة الحزب بوصول عون إلى الرئاسة تجنّباً لانتهاء التحالف بينهما، حيث أنّ مصلحته تكمن في عون الحليف لا عون الرئيس.

وتأسيساً على ما تقدّم، يواجه عون معضلتين أساسيتين: معضلة استمراره في ٨ آذار التي تحول دون وصوله رئيساً، لأنه يستحيل على 14 آذار انتخاب شخصية من 8 آذار وترجيح كفة خصمها في المعادلة الداخلية، إلّا في حال انتقل هذا الخصم من موقعه إلى الموقع الوسط.

والمعضلة الأخرى تتصِل بابتعاد عون عن «حزب الله»، ولَو إلى الوسط، لأنّ أيّ خطوة من هذا النوع يمكن أن يُقدم عليها عون تُفقد الحزب وزنه السياسي ومشروعه الوطني الذي يتكئ فيه على تحالفات من هذا القبيل وأبرزها عون مسيحياً، وتجعله ينكفئ إلى داخل طائفته، الأمر الذي لن يتعامل معه بليونة ولا بسهولة، فضلاً عن أنّ الرئاسة بحدّ ذاتها ستفرض على عون تعاطياً مختلفاً مع القوى السياسية في الداخل ومراكز القرار في الخارج، وتؤدي إلى خلط الأوراق بكل الاتجاهات.

ولعلّ التعويض الوحيد الذي باستطاعة الجنرال أن يتكفّل به للحزب هو التعهّد بأنّ «بعبدا» لن تسمح بأيّ مشروع غلبة يُطيح الاستقرار، وأنّ المدخل لحلّ الأزمة اللبنانية لن يكون المؤسسات بل التسوية الخارجية. ولكن «حزب الله» يفضّل عدم المجازفة بخسارة حليف مسيحي سيدخل مع الرئاسة في مرحلة جديدة يصعب التكهن بطبيعتها وشكلها ومضمونها، خصوصاً مع شخصية مثل العماد عون.

وإذا كان ما تقدّم كله صحيحاً، يبقى أنّ على عون أن يحسم خياره. فلا يمكنه البقاء في ٨ آذار وأن يواصِل حَجزه للانتخابات الرئاسية، لأنه لن يصِل إلى بعبدا من موقعه الحالي.

وإذا كان ينتظر تطورات الملف النووي، فعليه أن يضع سقفاً زمنياً لحسم خياراته، وليس تمديد الفراغ مع تمديد النووي، بمعنى أنه يجب أن يكون شهر تموز حاسماً على هذا المستوى: إمّا التقاطه إشارات جدية بوصوله إلى الرئاسة من الباب الإيراني، أو الدخول في تسوية رئاسية لتسمية شخصية وسطية، علماً أنّ الرهان على التطورات هو وَهم، لأنّ الأزمة طويلة ومديدة، والأيام والأشهر والسنوات المقبلة ستُثبت صحة هذا الكلام أو عدمه.

وإذا كان عون لا يراهن فعلاً على تطورات النووي، وبقيَ متمسكاً في الوقت نفسه بترشيحه، فما عليه سوى أن يعلن وسطيته وحياده، وأن يقتدي بتجربة جنبلاط التي وحدها تفتح له طريق بعبدا. فلا أحد ينتخب خصمه، وعلى عون أن يبدّي في نهاية المطاف مصلحته على مصلحة الحزب بمعزل عن كلفتها.

ومن الملفت التذكير بأنّ عامل الوقت لا يعمل لمصلحته، وفي مطلق الأحوال تحالفه مع الحزب خدم عسكريته، نظراً لاختلاف المرحلة بين لحظة التوقيع على وثيقة التفاهم واليوم، فضلاً عن أنه استفاد من هذا التحالف وأفاد الحزب بالمقابل، وربما استفاد الحزب أكثر. وبالتالي، حان الوقت أن يعيد تموضعه نحو الوسط، لا 14 آذار، هذا التموضع الكفيل بتقريب عون من بعبدا، وبإعادة الحزب إلى حجمه الطبيعي وطنياً.