في أزمنة التغييرات الكبرى يفترض بالقوى اللبنانيّة أن تقرأ الأزمنة الآتية بعناوينها ومعانيها، بدلالاتها وأبعادها. شيء ما يجول في رؤوس بعض المراقبين لحراك الأفرقاء السياسيين المنكبين في الزمن الحاضر على تأليف الحكومة والمتشددين بقوّة على نيل الحصص التي يريدون ويشتهون، بأن لبنان ليس معطى للبنانيين من ذاتهم تتحدّد وظيفته السياسيّة الطبيعيّة من تلاقي الإرادات، بل لا يزال معطى أخرويًّا، وطن تسويات، يصنعها الآخرون يولفونها وفقًا لما يرون، خال من وظيفة جذوريّة بسبب صراع الرهانات.
الطامة الكبرى الهائلة بأنّ عددًا كبيرًا من السياسيين يتعاطى مع عمليّة التأليف وكأنّ الحكومة أو كأن الدولة مزرعة للتقاسم وليست منطلقًا للخدمة وتجسيد السلطة وتأمين الحضور الكامل لوطن تمزّق لسنوات وما فهم بعضهم بأن التجارب التي مرّ بها لبنان تقتضي بالعمق معالجة الأزمة السياسيّة بجوهرها وليس بظاهرها.
من نوافل القول أن يعتبر بعضهم بأنّ انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة برز كمعطى متكامل، والعهد الحاليّ ليس كالعهود السالفة من حيث الوجه والسلوك والتوجّه، وكما قال الوزير جبران باسيل لقد تمّ تصحيح الخلل بترسيخ الفلسفة الميثاقيّة، وليس بمقدور أحد أن يتعاطى مع المسيحيين كأنهم كتلة منقرضة في زمان ليس زمانهم. وعلى الرغم من ذلك فإنّ بعضهم الآخر يتعاطى مع العناوين المطروحة وفي اللحظات النغييريّة وفقًا لانهيار واقع والانطلاق نحو واقع جديد، من زاوية التعالي، ومن زاوية لا تحترم المقاييس الدستوريّة بأصولها ومعاييرها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أظهر مرجع سياسيّ نقدًا أوضحه على النحو التالي: ثمّة مفهوم مندرج من باب العرف بدأ يترسّب في عمق مسرى النقاش السياسيّ، يعتبر بأنّ الوزارات ملك لأشخاص وطوائف، وينطلق هذا المفهوم بكثير من الانتفاخ على حساب الدستور والميثاق، وذاك بدوره مبعث للخلل والتبعثر والتعثّر. وذهب هذا المرجع بالكلام النقديّ إلى التساؤل عن مغزى ربط وزارات محددة بطوائف محدّدة، وما معنى أن نسمع ونقرأ في الوسائل الإعلاميّة مرئيّة أو مسموعة أو مقروءة بأنّ مسؤولاً تنازل عن هذه الحقيبة لمسؤول آخر بمعزل عن رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، وكأن هذا المسؤول يرى في حصصه مكاسب خاصّة به؟ ويتأسّف هذا المصدر على الحالة التي بلغها لبنان وبلغتها الأمور فيه، ويؤكّد في حديثه بأنّ الدفاع عن الطائف لا يزال في حدوده الماكيافيليّة، فناك من يقول قولاً ويبدّل فعلاُ، ويعتبر بأنّ الطائف قد انتهى في الأصل، والانقلاب عليه حصل منذ نشوئه، وأكبر شهود على ذلك شخصان محترمان جدًّا واحد تكلم وألّف كتابًا أسماه : «الانقلاب على الطائف»، وهو الدكتور ألبير منصور، وآخر ظلّ صامتًا محتفظًا بقرفه وحزنه في قلبه وهو الدكتور بيار دكّاش وقد تحرّر من وباء هذا الجوّ بعد اكتشافه المآرب النتنة الكامنة خلفه.
ويبيّن هذا المرجع، بأنّ بعضهم بتعاطى مع تاليف الحكومة من باب هامشيّ عابر وتهميشيّ فاجر. ويقول بأنّ عملية التأليف ليست سلعة، بل هي حالة ترميم لوطن يولد بعهد جديد، وقمّة العهد إبرام قانون للانتخابات. ويكشف هذا المرجع إنزعاج رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون من الطرائق المعتمدة في التأليف، فالرئيس رافض بصورة قطعيّة لمبدأ المحاصصة المقيتة، وافض بأن تكرّس وزارات على مقاس اشخاص وطوائف، ما يعمل له رئيس الجمهوريّة أن نبدأ بحكومة وحدة وطنيّة نعمّم منطق الشراكة الوطنيّة وفقًا للقواعد الميثاقيّة والدستوريّة والوطنيّة، والتي ناضل هو شخصيًّا في سبيل تثميرها وتجذيرها، وليس وفقًا لما يحدث، كما هو منزعج من الأسلوب المتبّع لدى بعضهم في مخاطبة الرئيس وموقع الرئاسة.
وبحسب هذا المرجع، فإنّ البطريرك المارونيّ بشارة الراعي عكف منذ ايام قليلة على إيجاد المخارج اللائقة لترتيب الوضع وترطيب العلاقة بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجيّة. وخلال زيارته لرئيس الجمهورية، اكتشف البطريرك كلّ ترحاب من الرئيس، وفرنجيّة وبحسب المصدر يعرف كيف ان العماد عون سنة 2005 وبعيد عودته من لبنان اصطحبه إلى طرابلس وصالحه مع المغفور له الرئيس عمر كرامي، وأظهر كلّ حرص على أن يستعيد فرنجيّة موقعه في الطائفة السنيّة وبخاصّة بعد اتهامه غير مرّة بضلوعه بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويتذكّر هذا المصدر قولاً للوزير فرنجيّة خلال سنة 2005 وبعد زيارة عون له في بنشعي، بأن العماد عون بمثابة والدي وأحبّه كوالدي، وليس كما قال بأن والده مات منذ أربعين سنة.
وخلال زيارة فرنجية للصرح البطريركيّ أبدى له البطريرك تلك الطراوة البادية من رئيس الجمهوريّة تجاهه، وهو على استعداد للقائه، حتّى أن البطريرك أبدى له استعداده لمرافقته إلى بعبدا، ورئيس الجمهوريّة أبدى كلّ استعداد لاستقبال فرنجية بمعية الراعي بحفاوة وتكريم. لكنّ تصريح فرنجية من الصرح البطريركيّ ومن ثمّ السلوك المتبع بينه وبين الرئيس نبيه برّي حول التنازل عن وزارة الأشغال العامّة فاجأ البطريرك كما فاجأ رئيس الجمهوريّة، ويؤكّد هذا المرجع بأنّ الرئيس كما البطريرك استاءا من طريقة الكلام ونوعيته في مخاطبة الرئيس والرئاسة.
يتبيّن من ذلك، بأنّ سليمان فرنجيّة وبحسب هذا المصدر، يتعاطى مع الواقع السياسيّ الحاليّ بخفّة وتموضع واضح في مكانين مختلفين عن مكانه الطبيعيّ. فحزب الله مع أمينه العام السيد حسن نصرالله، المتحالف في الأصل مع العماد عون، تحالف في الآونة الأخيرة مع فرنجيّة في مطالبه بنيل وزارة سياديّة، لكنّ المصدر عينه ذكر وبحسب معرفته بجوّ الحزب بأنّه لا يرضى على الإطلاق هذا النوع من التعاطي مع الرئيس وقد نعته أمينه العام بأنه جبل وعنده ثقة كبيرة به. وقد لمس المعنيون في الحزب وبعيد الاتصالات التي تولاها بصورة شخصيّة كلّ من الحاج وفيق صفا أو الحاج حسين خليل حرصُا من التيار الوطنيّ الحرّ ورئيسه جبران باسيل، وحرص رئيس الجمهوريّة على إيجاد الصيغ المرنة وبالفعل لقد اتبعت من قبل باسيل ومالت الأجواء نحو الحلّ. ويؤكّد جوّ الحزب بأنّه سيسعى حتى اللحظات الأخيرة ومع البطريرك والمخلصين لإغلاق هذا الملف حرصًا على الصداقة المشتركة والحلف الاستراتيجيّ الكبير سيما بأن جنى النصر بات متوفّرا ومجسّدًا. لا يسوغ وبحسب الحزب مخاطبة الرئيس يهذه الطريقة، وكما اكّد المصدر السياسيّ.
ويعتقد هذا المصدر بأنّ تأليف الحكومة غير مرتبط بمواقيت، هناك مسعى واضح عنوانه تقويض العهد ومحاولة تطويعه إنطلاقًا من القفز فوقه بعدد من الإجراءات والمقايضات، ولن يسمح رئيس الجمهوريّة بذلك وهو قد تفاهم مع معظم القوى السياسيّة وبخاصّة حزب الله والقوات اللبنانيّة على تلك القاعدة في التعاطي. ميشال عون ليس إلاّ ميشال عون، وكما يعرفه كثيرون يستلذ التحديات ويهواها ولا يأباها ولا يخشاها، لقد قال عنه ميشال إده كلامًا واضحًا بأنه حفر الجبل بالإبرة لمدة خمسة وعشرين عامًا بصبر كبير حتى وصل. ثمّة من لا يريد رئيس جمهوريّة يملك القدرة على الحلّ والربط، وقد راهنوا على ذلك وفشلوا، واليوم يراهنون على محاولة إضعافه وإفشاله، وهذا أيضًا ما لن يستطيعوا عليه.
التعاطي مع تأليف الحكومة ينبغي أن يصبّ في ترميم الدولة ومناقشة قانون الانتخابات وإقراره يجب أن يتجه نحو ولادة نظام سياسيّ جديد، وحتّى ذلك الحين لبنان يعيش أزمة نظام وليس أزمة حكم، أزمة وطن، وليس أزمة جمهورية. فالجمهوريّة انطلقت… لكنّ أزمة النظام والوطن باقية حتّى ننتهي من تأليف الحكومة وإقرار قانون نوعيّ للانتخابات النيابيّة مرتكز على المناصفة وعلى النسبية الكاملة ولبنان دائرة واحدة أو دوائر موسعة… حلّ هذه الأزمات بات ضروريًّا في ظلّ الاتجاه نحو مرحلة تكوينيّة جديدة في المنطقة أي في المشرق، مع انهيار مشاريع وولادة مشاريع جديدة قائمة على التوازن في الشراكة بين الجميع.