عون والستاتيكو
شارل جبور
الستاتيكو هو الخصم الأول للعماد ميشال عون، فيعمد دائماً إلى تحريكه أو إسقاطه في محاولة لتغيير مسار الأحداث وجعلها تصبّ في مصلحته.
لم يُطلق عون في العام 1989 «حرب التحرير» عن عبث أو خطأ، بل أطلقها في اللحظة التي أيقنَ فيها أنّ انتقاله من اليرزة إلى بعبدا أصبح متعذّراً.
وقد نجح في إسقاط الستاتيكو القائم من خلال استجلاب التدخلات الخارجية لإنهاء الحرب اللبنانية في اللحظة نفسها التي بدأت فيها واشنطن التحضير على نار خفيفة لمفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية، ولكنّ هذا النجاح لم يصبّ في خانته، حيث أنّ مؤديات ونتائج كسر الستاتيكو ترجمت في الرعاية الدولية-الإقليمية لاتفاق الطائف واستبعاده عن رئاسة الجمهورية، لا عن التركيبة السياسية التي استبعد نفسه عنها.
ولم يُطلق عون في مطلع العام 1990 «حرب الإلغاء» عن عبث أو خطأ أيضاً، بل أطلقها في محاولة لإسقاط المولود الجديد المسمّى اتفاق الطائف. ولكنّ محاولته باءت بالفشل نظراً للرعاية الدولية الواسعة للاتفاق ورغبة المجتمع الدولي بالانتهاء من الأزمة اللبنانية من أجل التفرّغ لملفات وقضايا أخرى.
ولم يتحالف عون مع «حزب الله» في العام 2006 إلّا لحظة تَيقّنه أنّ التحالف الرباعي الذي أنتجَ نظام الحكم بعد الخروج السوري من لبنان لن يوصِله إلى بعبدا في العام 2007، فاعتقد انه عبر هذا التحالف يُسقط الستاتيكو الذي أنتجَ تلك المرحلة.
ولم يدعم عون «حزب الله» ويغطّيه في 7 أيار 2008 إلّا انطلاقاً من رغبته في كسر الستاتيكو الذي نشأ بفِعل الخروج السوري من لبنان، ولكنّ ميزان القوى الدولي-الإقليمي الذي استبعده عن الرئاسة الأولى في اتفاق الطائف، عاد واستبعده عن الموقع نفسه في اتفاق الدوحة.
ولم ينفتح عون على الرئيس سعد الحريري ويدخل في حوار ثنائي معه إلّا من أجل كسر الستاتيكو المُتمثّل بالاصطفاف السياسي بين 8 و14 آذار، هذا الحوار الذي كاد أن يحقّق هدف العماد عون لولا التدخلات الإقليمية التي حالت دون ذلك، وفق ما صرّحَ به الجنرال مراراً.
ولم يلوّح عون بالشارع والفيدرالية والحقوق المسيحية إلّا من أجل كسر الستاتيكو الذي دخلت فيه البلاد مع الأزمة السورية في مرحلة أولى، ومع حكومة الرئيس تمام سلام في مرحلة ثانية، والذي تُرجم بالتمديد المتواصل النيابي والعسكري والفراغ الرئاسي، وشَعر معه عون بأنّ حظوظه الرئاسية والعسكرية انتَفَت، وانه امام خيارين: إمّا التسليم بالأمر الواقع، أو كسر الستاتيكو القائم.
وتأسيساً على ما تقدّم، كل الأحداث المذكورة وغيرها تدلّ بوضوح الى أنّ عون من الشخصيات التي ترفض التسليم بقدرها ومصيرها، بل تضع ما يحصل معها في سياق «المؤامرة» ضد ما تُمثّل وفي خشية من إدارتها وطريقة حكمها وممارستها.
وثبتت الأحداث أيضاً أنّ عون لا ييأس، بل يحاول باستمرار إطلاق دينامية سياسية في محاولة لكسر الجمود والدخول في مرحلة جديدة على قاعدة أنّ القديم تمّ امتحانه والتعرّف إليه وعلى السقف الذي يمكن بلوغه، فيما المرحلة الجديدة قد تقدّم فرصة جديدة، وفي مطلق الأحوال لن تكون أسوأ ممّا سبقها.
واللافت أنّ العماد عون هذه المرة ليس قائداً للجيش، ويتحرّك وفق أجندة عونية، وليس أجندة عونية-حزب اللهية مشتركة، وفي ظلّ نوع من إجماع سياسي داخلي وخارجي على استمرار الحكومة، وفي طليعة هذا الإجماع حليفه في ورقة التفاهم، وعلى رغم ذلك يحاول كَسر الستاتيكو الذي يرى فيه كسراً لأحلامه وأهدافه.
ولكنّ غياب التقاطع بينه وبين الحزب هذه المرة جعله يندفع باتجاه العنوان المسيحي، وهو كأيّ عنوان طائفي له بيئة حاضنة، وكيف بالحري إذا كانت هذه البيئة متوجّسة من التطورات خارج الحدود المتمثّلة بصعود التطرّف وضرب ما تبقّى من مسيحية مشرقية، وترى نفسها مَغبونة من الممارسة السياسية داخل الحدود، وتنظر إلى المرحلة الجديدة التي ستدخلها المنطقة بعد التوقيع النهائي على النووي الإيراني بعَين الأمل لإعادة تصحيح الخلل الذي أصابها بالممارسة منذ العام 1990 إلى اليوم.
وفي هذا السياق لا يبدو أنّ العماد عون أطلقَ انتفاضته عن عبث أو خطأ، بل في اللحظة التي تأكد فيها أنّ آفاقه الرئاسية والعسكرية مُقفلة قرّر الذهاب في المواجهة إلى النهاية رافعاً العنوان المسيحي في اللحظة التي يصغي فيها العالم لصرخات الأقليات، وتحديداً المسيحية، وبشكل خاص في لبنان آخر معاقل المسيحية الحرة في الشرق.
ومن الواضح أنه يريد استجلاب التدخّل الدولي تماماً كما فَعلَ في ثمانينات القرن الماضي، من أجل إعطاء الأولوية للملف اللبناني على السوري والعراقي واليمني وتحت عنوان إعادة النظر بالنظام السياسي، مُستفيداً من عوامل عدة أبرزها الآتي:
أولاً، العطف الدولي والفاتيكاني على المسيحيين المشرقيين.
ثانياً، وجود ظروف إقليمية مواتية تتصِل بإعادة النظر بالأنظمة السورية والعراقية واليمنية.
ثالثاً، وجود ظروف داخلية مواتية تتمثّل بتعطّل النظام السياسي وغياب الممانعة المسيحية الوازنة لتوَجّه عون، حيث أنّ الشكوى المسيحية، ولَو متفاوتة، هي بشكل أو بآخر مُعمّمَة في ظل غياب الأمل من تصحيح الخلل التمثيلي.
رابعاً، عدم ممانعة «حزب الله» بل من مصلحته أن تأتي المبادرة لإعادة النظر بالنظام من المسيحيين، لأنّ اتفاق الطائف لن يعطيه حق الفيتو والاحتفاظ بسلاحه.
وحيال ما تقدّم تبرز التساؤلات الآتية: هل ستذهب الطبقة الحاكمة في مواجهة عون حتى النهاية، الأمر الذي سيدفعه قدماً نحو مشروعه بكَسر الستاتيكو والتقاطع مع التحولات الخارجية، أم ستحاول تدوير الزوايا معه من أجل تقطيع المرحلة بالحد الأدنى من الخسائر؟
وهل تهديدات عون يتمّ التعامل معها بجدية أم استلشاء؟ وبالتالي، يُستحسن أن تُعطى الانتباه اللازم للحؤول دون إدخال البلد في مرحلة جديدة يصعب تقدير كلفتها على الجميع؟ وهل ستَسلَم الجرّة هذه المرة مع كسر عون للستاتيكو الأخير، ربما، في حياته السياسية فيحقّق ما عجز عن تحقيقه سابقاً، أم ستلقى محاولته مصير ما سبقها من محاولات؟