«ملأ الجو هتافاً بحياة قاتليه أثّر البهتان فيه وانطلى الزور عليه يا له من ببغاء عقله في أذنيه» (أحمد شوقي)
هناك فرع من فروع علم النفس الاجتماعي يتعلّق بدراسة الحالة النفسية للحشود، فقد أصبح واضحاً أن الأفراد العاديين يكتسبون قوى إضافية عندما يعملون بشكل جماعي. لقد أثبتت الوقائع التاريخية أن الحشود تمكّنت في كثير من المحطات من تغيير المعادلات المنطقية وقلب الأمور رأساً على عقب.
لقد دفع هذا الواقع الكثيرين من علماء الاجتماع وعلماء النفس الى تقديم العديد من الأطروحات تحت عنوان «علم نفس الحشود» ومن ضمنهم «كارل يونغ» و«غوستاف لوبون» و«سيغموند فرويد» وغيرهم. وتتلخص معظم الآراء في أن الحشود تتصرف عادة بشكل مختلف عن منطق الفرد، بحيث تتضاعف سطوة الغرائز ويتضاءل الإحساس بالذنب أو المحاسبة الفردية، فتتلاشى سلطة المنطق السوي والتحليل الموضوعي وتحل الرمزيات والشعارات مكان الطروحات العلمية والبرامج المدروسة.
لقد شدّد «لوبون» في القرن التاسع عشر على دور «البروباغندا» في إدارة نفسية الحشود وتصرفاتها، كما شدّد على دور الشعارات (بغض النظر عن عقلانيتها) في إطلاق الحشود من عقالها. لقد وعى «أدولف هتلر» ووزير دعايته «جوزيف غوبلز» أهمية هذه الوقائع التي تم استخدامها بشكل مفرط في إدارة شؤون «الرايخ الثالث» في مسيرته نحو الكارثة الكبرى في الحرب العالمية الثانية.
وغالباً ما تنشأ علاقة جدلية بين الحشود وبين القائد «الكاريزمي»، وهي لفظة أصلها يونانية وتعني «هبة من الخالق». و«الكاريزما» تختصر مجموعة غير محددة من الصفات تشمل السحر والإقناع والإلهام وقوة التأثير على الجماهير، وغالباً ما تختلط هذه الصفات بقدرات ما ورائية تجعل القائد في موقع قريب من العبادة. ومن الملاحظ أن هؤلاء القادة بقدر ما يتمتعون بقدرة على تحريك الحشود الى حد العنف المطلق، فهم في الإجمال يتمتعون برصانة غير اعتيادية ورباطة جأش وثقة بالنفس وتفوق وسلطة بالإضافة إلى قدرة فائقة على التركيز بالإضافة الى قدرات خطابية وحوارية مميزة.
وقد وصف «ماكس ويبر»، العالم النفساني الألماني، الكاريزما بأنها نوع من السلطة النابعة من صفات يحملها أحد الأفراد يأتي في زمن مناسب لتزعمه فئة من البشر مما يجعله مميزاً عن الناس العاديين لكونه «متمتعاً بقدرات فوق الطبيعة وفوق القدرات الإنسانية»، أو على الأقل صاحب قدرات وصفات متميزة ونادرة. وهذه الصفات والمميزات لا يمكن للبشر العاديين أن يتمتعوا بها لأنها تعتبر منحة مقدسة تجعل القائد في موقع المرجعية المطلقة ومن خلالها تصبح عصمة هذا القائد أمراً مقبولاً لا بل محسوماً لدى أتباعه.
بعيد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، وبعد تحول الجمهورية الإسلامية في إيران الى سلطة ولاية الفقيه، دخلت في حوار مع أحد الأصدقاء من اليساريين التائبين والعائدين الى أحضان طائفته. سألت صديقي عن سر تحوله فقال لي: «لقد كنت في طهران منذ بضعة أشهر وشاركت في صلاة الجمعة واستمعت مع الملايين من المصلين الى خطاب السيد، إن شعوراً كهذا لا بد أن يعيدك الى إيمانك ويجعلك تقبل بمرجعية القائد من دون جدال، فكيف لملايين البشر المجتمعين ليستمعوا بخشوع لكلماته أن يكونوا مخطئين؟»، وفي محاولة يائسة منّي لتغيير قناعاته المتجددة حدّثته عن تجارب مماثلة في تاريخ القرن العشرين من موسوليني الى هتلر الى ستالين الى ماو وإلى الزعيم المحبوب كيم ايل سونغ وجمال عبدالناصر وغيرهم عندما كانوا يجمعون الملايين في الساحات وأحياناً حول الراديو للاستماع لخطاباتهم، وبالنتيجة ماذا حل بتجاربهم مع شعوبهم؟ لم يعجب صديقي التشبيه بطبيعة الحال فأين قائده الجديد وهالته المقدسة من هؤلاء القادة الفاشلين؟ فآثرت وقف الحديث حفاظاً على صداقتي معه خصوصاً بعد أن لاحظت الارتجاف في لحيته التي تحوّلت فجأة من تيمن بماركس وإنجلز الى تيمن بالمرشد!
قبل هذه التجربة كنت أضع اللوم على القادة الكاريزميين لكونهم هم وحدهم بقراراتهم الخاطئة، أو ربما أحياناً الصحيحة وإن كانت فاشلة، مسؤولين عن السير بحشودهم الى الكارثة، ولكنني بدأت أدرك أن العلاقة بين القائد الملهم والحشود الهائمة هي علاقة جدلية، فبقدر ما يؤثر القائد بالحشود، يتأثر القائد برد فعل هذه الحشود، فهل يمكن للقائد أن يحتفظ بكامل رشده عندما يستمع الى الحشود الهاتفة له بحياته والمكبرة عند كل خلجة من خلجات خطابه، والمصدقة ما لا يصدق والمؤمنة حتى بتحقيق المستحيل طالما أنها تسير تحت قيادته؟
كلامي هذا أتى بعد مشاهدتي عشرات ألوف المواطنين الذين تجمعوا على طريق بعبدا استجابة لنداء «المرشد» ميشال عون…
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»