Site icon IMLebanon

عون وتاريخ «الشارع» اللبناني

في تاريخ لبنان، لم يكن الشارع مسرحاً للتغيير السياسي والديموقراطي إلّا في مرّات نادرة جداً، وفي لحظات مصيرية، إذ يتحوّل المطلب المحقّ أو التظاهرات صدامات تأخذ طابعاً سياسياً وتتجه نحو الطائفية، في وقت تندرج القضايا المعيشيّة والحياتيّة في آخر سلّم أولويات اللبنانيين، ولا تشكّل محرّكاً لهم لكي يتظاهروا من أجل تأمين أبسط حقوقهم.

تستطيع أحزاب وتيارات «المستقبل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ» و«التقدمي الإشتراكي» و«أمل» و«القوات اللبنانية» حشد عشرات الآلاف لقضية سياسيّة، في وقت تفشل الإتحادات العمالية والنقابات على مختلف إتجاهاتها في حشد المتضررين من الشعب لتصحيح الخلل المعيشي ومواجهة غلاء المعيشة.

وفي هذا السياق، يبدو أنّ «التيار الوطني الحرّ» سيسلك طريق الإعتراض الشعبي على تهميشه في الحكومة وعدم الأخذ في مطالبه. وفي وقت يستكمل التحضيرات لإعلان ساعة الصفر، يسود تكتّم شديد الأوساط العونية التي تتحفَّظ عن إعلان شكل التحرّك وحجمه، فهل سيكون تظاهرة ضخمة في ساحة الشهداء أو في كسروان، عاصمة الموارنة، لإعطائها طابعاً مسيحياً يسهل فيه شدّ العصب وحشد المناصرين، أو أنّ الأمور ستسلك طابعاً مغايراً تماماً يتمثّل بقطع الطرق الرئيسة وشلّ البلد من شماله الى جنوبه مروراً بالبقاع، لتتكوّن قوة ضغط شعبية عمادها الأساس، المسيحيون، فتقول «خلّصوا البلد وأعطوا الجنرال ما يريد».

يدرس «التيار الوطني الحرّ» حساباته الخاصة المتعلّقة بمسائل روتينيّة وتنظيمية، لعلّ أبرزها قدرته على الحشد وسط عدم نجاح الكادر التنظيمي للتيار، وإتكاله على القوّة التجييشية للعماد ميشال عون، في ظلّ تململ مسيحي ووطني وعدم رغبة في التحرّك لأنّ مجريات الأحداث أثبتت أنّ الخارج هو المؤثر الأبرز في إنتخاب رئيس للجمهورية.

وإذا كان العنوان الذي يرفعه «التيار» جذّاباً وفضفاضاً ويحاكي الوجدان المسيحي، إلّا أنّ أكثر من نصف المسيحيين يعتبرون أنّ العقدة الرئاسيّة الأبرز هي تمسّك عون بترشيحه وعدم قبول البحث في اسم بديل.

لعلّ المنحى التصادمي المتمثّل في قطع الطرق، هو مخاطرة كبيرة لأنّ الجوّ الطائفي مشحون، وأيّ صدام في مناطق التماس القديمة سيؤدّي الى ما لا تُحمد عقباه خصوصاً في الشمال والخطّ الفاصل في بيروت والبقاع، وبالتالي لا يستطيع أحدٌ تحمّلَ نتائجه. لذلك، يدرس عون خطته بتأنٍّ، مع الحفاظ على سقف عال في النبرة السياسية والتصعيدية، وهو يعرف جيداً أنّ لعبة الشارع خطيرة على اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.

نجح خيار الشارع مرتين في تاريخ لبنان، الأولى عام 1943 عندما نزل اللبنانيون للمطالبة بالاستقلال عن فرنسا والإفراج عن زعمائهم، وقد إستغلّوا لحظة الكباش الفرنسي- البريطاني ونالوا الإستقلال، والمرة الثانية عندما ملأوا ساحة الشهداء في 14 آذار 2005 بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ونجحوا في إخراج الإحتلال السوري من لبنان بدعم دولي.

أما في المحطات العادية، وباستثناء إسقاط الرئيس بشارة الخوري عام 1952 بعد الإضراب الشامل في البلاد، فتحوّلت التظاهرات عموماً صدامات طائفية، خصوصاً أثناء ثورة 1958 على عهد الرئيس كميل شمعون التي أخذت طابعاً إسلامياً في وجه المسيحيين. بعدها نظّمت التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين بغطاء سنّي على رغم مشاركة أحزاب اليسار، فيما كان إغتيال النائب معروف سعد في صيدا خلال تظاهرة لدعم الصيادين عام 1975 من الأحداث التي مهّدت للحرب الأهلية.

لم تنفع كلّ التظاهرات المؤيِّدة للعماد عون في قصر الشعب منذ تسلّمه الحكومة الإنتقالية عام 1988 في إثبات أحقيّته الرئاسية، فوُقّع اتفاق «الطائف» وأُخرج عون من بعبدا بالقوة، لكنّ الحدث الأبرز كان إسقاط حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي عام 1992 بعد أحداث حيّ السلم وسقوط عدد من المواطنين وبداية عهد الرئيس رفيق الحريري، لتتبعها تظاهرات شبابية تطالب بخروج السوريين، وعلى رغم أهمية هذا المطلب السيادي، كانت التظاهرات تأخذ طابعاً مسيحياً.

بعد مرحلة العام 2005 كان الإعتصام الشهير الذي بدأ في 1 كانون الاول 2006 وقاده «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» للمطالبة بالثلث المعطّل في الحكومة، وكان يوم 25 كانون الثاني 2007 الأبرز في صدام الشوارع، إذ انفجر الخلاف المسيحي معارك على الأرض، ونجحت حينها «القوات اللبنانية» في فتح الطرق في المناطق المسيحية كافة، لتأتي دعوة الإتحاد العمالي العام للتظاهر في 7 أيار 2008 احتجاجاً على عدم تصحيح الأجور، وكانت العباءة التي انطلق منها «حزب الله» لتنفيذ أحداث 7 أيار والذهاب الى الدوحة.

وبعد الإنقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري كان يوم الغضب السنّي في 25 كانون الثاني 2011، في وقت عاش لبنان على وقع التظاهرات المؤيّدة للثورة السورية والمعارِضة لها والتي أخذت طابعاً طائفياً.

كلّ ذلك يدخل في الحسابات السياسية ويدلّ على أنّ الشارع لن يوصل الى مكان، لكن ما يُطمئن في هذا السياق هو تحييد «القوات اللبنانية» نفسها عن هذا الخيار وعدم إستعدادها لمواجهة عون وتعريض المناطق المسيحية المحيّدة لإشكالات.

لكنّ هناك مقولة شهيرة إنّ «الحرب هي استكمال للسياسة لكن بطريقة أخرى»، فإذا لم يستطع عون ترجمة تحرّكاته انتصاراً سياسياً، ماذا سيكون الموقف حينها، خصوصاً أنّ «حزب الله» حليفه غير متحمّس لخيار الشارع؟