كان لا بدّ للرئيس سعد الحريري أن يمرّ بمحطة باريس في طريق عودته من السعودية الى لبنان، ذلك أنّه بعد الضرر المعنوي الفادح الذي لحق به جرّاء أسبوعين شاقّين في السعودية.
وتولى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أول دخول كبير له الى لبنان، ومنه الى ملف الشرق الاوسط، هذه المهمة. فهو بالاستقبال الذي نظّمه للحريري وعائلته متجاوزاً البروتوكول الفرنسي المتّبع عادة، والحفاوة التي قاربت الترحيب بأحد أفراد العائلة أو بشخصية دولية استثنائية، نجح في التخفيف من الضرر المعنوي الذي أصاب الحريري خلال اقامته الصعبة في السعودية.
وبَدا الحريري في باريس مرتاحاً، لكن من دون ان يعني ذلك بالضرورة وضوح الصورة السياسية حيال مستقبل الحكومة.
بداية، لم تتحرّك باريس من منطلقات شخصية أو اعتبارات الصداقة أو التزامات أخلاقية فقط، إذ إنّ هذه المسائل لا وجود لها في كتاب مصالح الدول.
فالرئيس الفرنسي، الذي كان قد بدأ في البحث عن مدخل معقول لدور ما لبلاده في الشرق الاوسط الجاري ترتيبه، كان يدرك أنّ الباب الوحيد المُتاح لفرنسا هو لبنان، فدخلت باريس على خط تأمين التجديد لقوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان «اليونيفيل» خلال الصيف الماضي مُظهرة أنها قادرة على التأثير على القرار الاميركي، الذي كان يطالب بتعديلات جوهرية على مهمات هذه القوات.
لكنّ الفرصة جاءت على المستجدات التي كادت أن تطيح بالاستقرار اللبناني الداخلي، والذي شكّل ولا يزال خطاً احمر دولياً.
نسّقت باريس خطواتها جيداً مع واشنطن خصوصاً، إضافة الى عواصم اوروبية، على اعتبار انها تعرف مدى الخصوصية التي تسود العلاقات السعودية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والبرنامج الموضوع بينهما.
نسّق قصر الإليزيه جيداً مع البيت الابيض وتقدّم في اتجاه الرياض لنسج تفاهم كامل يعطي الحريري حريته السياسية، ولو تحت سقف جديد. صحيح أنّ السعودية تحرّكت تحت سقف تفاهمها مع الإدارة الاميركية حيال استراتيجية جديدة ضد ايران والحرس الثوري و»حزب الله»، لكنّ حركتها لم تكن مدروسة جيداً، ما جعلها تخسر من أوراقها اللبنانية بدلاً من تحقيق نقاط ومكاسب.
وفيما تولّت باريس المساعدة في إيجاد المخرج المطلوب، كانت الديبلوماسية الاميركية تُبدي للسعوديين وجهة نظرها في ما يحصل: تصعيد المشكلة في لبنان وإطالة عمرها كما هو حاصل الآن سيؤديان الى تعزيز موقع «حزب الله» لا العكس.
وكلما طالت الازمة في لبنان تفاقم خطر تهديد الاستقرار الداخلي الهش لهذا البلد، وبالتالي يصبح الوضع اسوأ بالنسبة الى المصالح الاميركية والسعودية.
وكما خلقت فوضى «الربيع العربي» ببيئة مؤاتية لتعزيز وتوسيع أنشطة «حزب الله» وإيران، فإنّ الفوضى السياسية في لبنان ستؤدي الى نتائج مماثلة لا العكس، وتكفي الاشارة الى أنّ نفوذ «حزب الله» زادَ بعد حرب الـ 2006.
وفي «النصائح» الاميركية للسعودية، كما نقلتها اوساط ديبلوماسية مطلعة، أن واشنطن قرأت جيداً المقصود برسالة الصاروخ البالستي الذي اطلق على الرياض، وهو بأنه رسالة جوابية صريحة لإدارة ترامب التي كانت قد أعلنت عن استراتيجية جديدة ضد طهران والحرس الثوري و«حزب الله».
وانتهت القراءة الاميركية للأوضاع بنصيحة للسعودية بإنجاز حلٍّ سياسي سريع للازمة في لبنان، على ان تتولى واشنطن ومعها باريس إيجاد خطة سياسية للضغط على «حزب الله» وايران.
ووفق هذا العنوان، أعلن الرئيس الفرنسي ضرورة أن تتّبع ايران استراتيجية اقل هجومية في المنطقة، وأن تتمكن من توضيح سياستها الصاروخية البالستية التي لا تخضع لضوابط.
وكان واضحاً أنّ باريس باشرت التحضير لسياسة هجومية بعد انتزاع اعتراف من واشنطن بدور لها في الشرق الاوسط إنطلاقاً من لبنان.
لكنّ ايران ردّت على الفور، فبعد انتقاد عنيف هو الاول من نوعه منذ فترة بعيدة جداً، قال مستشار المرشد الايراني للشؤون الخارجية علي أكبر ولايتي: من الواضح أنّ ردّنا سيكون سلبياً حول طلب فرنسا التفاوض حول السياسة الصاروخية.
ايران التي تشعر بالقوة، خصوصاً في ظل القصف الذي تؤمّنه القاذفات الاستراتيجية الروسية في البوكمال السورية لتأمين الطريق البرية بين طهران والناقورة، لا ترى ضرورة لدفع الاثمان لا بل على العكس.
وفق هذه الصورة الاقليمية يجب قراءة الازمة الحكومية في لبنان، لا من منظار الصراعات الداخلية والحسابات الضيقة.
لذلك مثلاً، بَدا الحريري مرتاحاً في باريس، وهو الذي خرج من أزمته بأقلّ الأضرار الممكنة وبمكسب كبير أنه استطاع تثبيت نفسه كزعيم موجود لا يستمدّ شعبية من أحد، ولو أنه يدرك في نهاية المطاف انه غير قادر بتاتاً على الذهاب بعيداً في معاندة بعض الخطوط العريضة للسياسة السعودية.
ولكن سعد الحريري المرتاح لانتهاء أزمته الشخصية، لا تبدو الصورة واضحة لديه حول كيفية تجاوز الازمة الحكومية وسط اقتراحات عدة متضاربة، وأحياناً متناقضة.
فاستحالة تأليف حكومة جديدة من دون «حزب الله» مسألة ثابتة في المعادلة اللبنانية. ورفض «حزب الله» إعلان التزامه بالنأي بنفسه عن صراعات المنطقة، خصوصاً اليمن، يضع حاجزاً كبيراً امام إمكانية تسليم الحريري به.
وترك رئاسة الحكومة لشخصية سنية أخرى غير الحريري لا يُغيّر شيئاً من الشرط الموضوع حول النأي الاقليمي لـ»حزب الله»، ما يعني أنّ الكفة ستميل عندها لتسمية رئيس للحكومة قريب من سياسة «حزب الله»، وبالتالي انزلاق الامور لحكومة مواجهة، وهو ما لا يريده لا الرئيس اللبناني ميشال عون ولا العواصم الغربية.
كما أنّ طرح حكومة التكنوقراط التي يبدو الرئيس عون متحمّساً لها كمخرج يزيل إحراجات الجميع، يرفضها «حزب الله»، وهو ما أبلغه أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله لوزير الخارجية جبران باسيل بكل وضوح خلال لقائهما الاخير.
ولذلك، نصح ماكرون الحريري بإطالة فترة إجازته لأسابيع من خلال تنظيم جولة دولية له، وهو ما يسمح للجميع بكسب الوقت والرهان على مُعطى جديد قد يجري توظيفه للمساعدة، في وقت تبقى الحكومة غير مستقيلة طالما أنّ الحريري لم يقدّم استقالته خطياً. ولذلك، قال ماكرون إنّ الحريري سيعود الى بيروت خلال ايام أو اسابيع.
لكنّ الحريري رفض الاقتراح كونه سيُضعفه مجدداً في الداخل اللبناني، ويُظهره كعاجز ويفقده كلّ ما كسبه من عطف خلال أزمته الصعبة.
وكان اقتراح آخر جرى تسويقه منذ نحو الاسبوع برعاية فرنسية، ويقضي بتجميد الحريري لاستقالته في مقابل امتناع الحكومة عن الاجتماع، على أن يجري التحضير لتأليف حكومة جديدة وفق الشروط الموضوعة، وهو ما سيحصل من دون الخضوع لعامل الوقت الضاغط او تحت وطأة حكومة تصريف الاعمال.
لكنّ السعودية عادت وسحبت يدها من هذا الاقتراح، بسبب ما اعتبرته تصعيداً لبنانياً في وجهها حول وضع الحريري.
ويسعى الحريري لإعادة إحياء هذا الاقتراح بمساعدة فرنسية، من دون أن يُحقّق قصر الايليزيه اي جديد في هذا الامر.
وفي آخر الاقتراحات، أن يقدّم الحريري استقالته، ومن ثم يُعاد تكليفه، ولكن من دون حصول تأليف وصولاً الى الانتخابات النيابية، لكنّ رئيس الجمهورية يُصرّ في هذه الحالة على تقديم موعد الانتخابات لتصبح في آذار تجنّباً لأيّ مراوحة، فيما يعارض ذلك كثيرون، ومنهم الحريري نفسه، بسبب عدم الاستعداد للانتخابات والحاجة للوقت.
في هذا الوقت ستحصل تعديلات لأسلوب ونمط التعاطي السياسي الذي طبَع المرحلة الماضية، فمثلاً ستغيب تغريدات الوزير السعودي ثامر السبهان، والتي شكّلت ما يُشبه أمر العمليات خلال المرحلة الماضية، في مقابل مَنح مساحة واسعة لإعلان لبنان الرسمي التزامه بسياسة النأي بالنفس، وهو ما جرى التفاهم عليه خلال لقاء الرئيس الفرنسي بوزير الخارجية اللبنانية وبالاتصال الهاتفي بين ماكرون وعون، مع ظهور أكبر للدور الفرنسي على المسرح اللبناني.
لكنّ ذلك لن يمنع المراقبين من التركيز على كيفية التعاطي السعودي «الخَفيّ» مع الشارع السني، وتبيان ما إذا كانت حصرية التمثيل السعودي السياسي ستبقى في دارة «بيت الوسط» أم أنّ هنالك ما يشبه توزيع هذا التمثيل على شخصيات عدة، أكانت داخل تيار «المستقبل» أم خارجه.