خرجت معركة الرئاسة اللبنانية من مرحلة الانتظار والوقت الضائع إلى مرحلة ملء الفراغ بالرجل المناسب. النتيجة المحسومة ضمناً بانتخاب الجنرال عون باتت متوقفة على ترتيب المقدمات والتفاهم على ملحقاتها. لم يعد يفصل الرجل عن رئاسة الجمهورية سوى قليل من الوقت وبعض من التفاهمات. قد لا يكون خيار المضي بعون رئيساً نابعاً من قناعة الكل وإجماعهم، لكن وصوله إلى بعبدا بات مرجحاً بحكم المصلحة العامة وصيرورة الأمور، التي ستفرض نفسها على الجميع في نهاية المطاف.
في التداعيات العميقة، يشكل عدم وصول الجنرال عون الى الرئاسة شائبة لا تقل شأناً عن الفراغ في قصر بعبدا. قد تكون الشائبة الأولى أشد وطأة باعتبار أن الفراغ، على علاته، يبقى مصحوباً بشيء من الاستقرار والمراوحة في المكان ذاته، في حين أن منع عون من الرئاسة سوف يؤدي إلى اختلالات عميقة، ربما تعيد الواقع اللبناني إلى ما كان عليه عشية الحرب الأهلية، وذلك على قاعدة وضع المسيحيين في خانة من الغبن شبيهة بما كان عليه المسلمون عشية الحرب الأهلية.
ومهما بدا المشهد ملتبساً، فقد نجح الجنرال في تخطي معركة الاعتراض عليه إلى معركة التفاهم معه تمهيداً للقبول به. حقه في الرئاسة بات أقوى من «الفيتوات» على ترشيحه. حلفاؤه يعملون لأجله فيما المعترضون سيعملون من أجل ملاقاته في منتصف الطريق. هو بات رافعة اضطرارية للحريري منعاً لسقوطه في الإفلاس المالي والتآكل الشعبي، حيث سيذهب هذا الأخير لانتخابه وهو مسلح بورقة سعودية بيضاء، حتى لو لم يحظ بتأييد كل أعضاء كتلته. الرئيس بري، بدوره، يرفع سلة الشروط، لكنه في النهاية لن يتخلى عن دوره التاريخي في تدوير الزوايا وإمساك العصا من الوسط. الرجل يدرك أن تموضع الحريري ضد رئاسة عون قد انتهى إلى أزمة، بينما تموضعه هو في المكان نفسه سوف ينتهي الى كارثة. مآل الأمور بين عين التينة والرابية محكوم في النهاية بالتلاقي ولو على نصف سلة. أما جعجع، تبعاً لحساباته البعيدة المدى، فلن يتراجع عن دعم عون في معركته الرئاسية بوصفها مدخلاً ملائماً لخلافته في تزعم الشارع المسيحي ورئاسة الجمهورية.
لقد نجح ميشال عون في اجتراح معادلة «لا فراغ يبقى إلى ما لا نهاية، ولا رئيس سواه». ونجح أيضاً في الحفاظ على تموضعه عندما اتفق عليه الخصوم واختلف عليه الحلفاء. تأخر في الوصول إلى الرئاسة، لكن القطار لم يفته، بل ما زال متوقفاً بانتظاره في المحطة ما قبل الأخيرة. المرة الاولى، وقبل ثلث قرن، جاء إلى بعبدا رئيسا للحكومة بالتكليف والتعيين، وخرج منها بحرب تقاطعت فيها الإرادات المتعارضة، وهو منهك بمعركتي «الإلغاء» و «التحرير». هذه المرة هو مصمم على العودة الى «بيت الشعب» في بعبدا منتصراً في حرب الارادات المتصالحة، وهو مثقل بمعركتي الإصلاح والتغيير.
ميشال عون أكثر تصلباً حين يكون ضعيفاً وأكثر مرونة عندما يكون قوياً. هو يقاتل كمحارب ويفاوض كديبلوماسي ويتفاهم كصديق. يختلف مع كثيرين، لكنه لا يتخلف عن مد يد الحوار والتفاهم. ويمتاز عن أقرانه من السياسيين، بأنه لم يُسجل عليه يوماً انخراطه في فساد. وفوق ذلك، هو على رأس أكبر تكتل نيابي مسيحي، والأكثر تمثيلا لدى المسيحيين.. فلماذا لا يكون الرجل في سدة الرئاسة الأولى، وثالث ثلاثة في الرئاسات؟