بات كلّ حدث سياسي يتعلّق من الآن وصاعداً بانتخابات رئاسة الجمهورية. بين الحملات الداخلية والعقوبات يدخل المرشحون الجديّون على إيقاع حدّ فاصل بين البقاء في النظام أو تعديله
هل رئيس الجمهورية المقبل هو رئيس تعديل النظام أم رئيس الحفاظ على اتّفاق الطائف؟
ليس الكلام عن اتفاق الطائف كلاماً في الهواء ولا هو مجرّد لازمة تتكرر في أدبيات سياسية أو حين تستدعي الحاجة لدى أيّ من الأفرقاء السياسيين. فالاتفاق لا يزال رغم خرقه لسنوات طوال في ظلّ الوجود السوري وحكم الترويكا، وتبدّل مقاربته منذ عام 2005، الدستور الوحيد والإطار الذي يربط المكوّنات اللبنانية، والحلقة التي تدور حولها مقاربات مختلفة لتعديله جزئيّاً أو جذريّاً أو الحفاظ عليه.
معركة رئاسة عام 2022، قد تكون تحت هذا العنوان، لا سيما أن مفاوضات تشكيل الحكومة اليوم تقاربه بطريقة أو بأخرى. هناك قوى سياسية مناهضة لحزب الله وللعهد تعتبر أن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لا يزال يشكّل ضمانة هذا الاتفاق، الذي أعطى للحريرية إبان وجود الرئيس الراحل رفيق الحريري ومن ثم ورثته سياسيّاً وعائليّاً، مكانتها وموقعها. وبما أن الحزب لم يُجهر علناً موقفه المؤيّد للتعديل من جانب واحد، فإنّ بقاء الحريري رئيساً للحكومة هو بمثابة الغطاء الذي يعطي للطائف استمرارية، ليس من موقعه الشخصي إنما لجهة الغطاء الذي لا يزال الفريق السني يؤمّنه للطائف ودستوره. وحين يتم التخلّي عن الحريري يمكن آنذاك إعادة درس الحسابات وما يمكن أن يتأتّى عن مثل هذه الحركة السياسية من انعكاس على النظام الحالي.
لكن معركة رئاسة الجمهورية تختلف باختلاف مقاربة القوى السياسية المسيحية لها وللنظام الحالي، بعدما بدأ المشهد الانتخابي مفتوحاً على إشكالات وعقوبات وتمايزات داخلية.
فإذا كانت العقوبات الأميركية على رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، شكلت بالنسبة إلى خصومه فرصة الإطاحة به مرشّحاً رئاسيّاً، لأنّ إزالة العقوبات ليست بالأمر السهل، ولو اختلفت مقاربة إدارة الرئيس جو بايدن تجاه لبنان عن رؤية سلفه الرئيس دونالد ترامب، إلّا أنّ باسيل لم ولن يخرج من السباق الرئاسي لألف سبب. لا بل إن أداءه في مفاوضات تشكيل الحكومة يبرهن ذلك. وهو اليوم يبدو أكثر إصراراً على تزخيم السنتين الأخيرتين من العهد لتعويم وضعيته، وإن كانت الظروف الصحية والاقتصادية التي يمرّ بها لبنان تعاكسه. وفكرة إجراء تعديل على النظام الحالي، بحسب معارضيه إحدى أوراق اعتماده الأساسية والرئيسية. لكنّ باسيل الذي بدأ صعوده «الرئاسي» صاروخيّاً، يواجه اليوم تحدّياً داخليّاً، لا يتعلّق بقوى 8 آذار أو 14 آذار، كما كانت الحال في الانتخابات التي أتت بعون رئيساً. التموضع الجديد للقوى السياسيّة خلط الأوراق، فرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ليس مرشح 14 آذار أو من تبقى منهم في المجلس النيابي أو تيار المستقبل، عدا عن رفضه من جانب حزب الله وحلفائه. ورئيس تيار المردة سليمان فرنجيه ليس مرشح 8 آذار بلا منازع. صحيح أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خرج من السباق الرئاسيّ، إلّا أن باسيل بات في الآونة الأخيرة يواجه خصماً من داخل البيت.
قائد الجيش يدخل المعركة الرئاسية بقوّة الموقع، لا ببرنامج سياسيّ أو اقتصاديّ أو حتى عسكريّ
لا شكّ أن قائد الجيش جوزف عون دخل السباق الرئاسي من بابه العريض، من دون أيّ التباسات حول الدور، ولو أنّ دخوله لا يزال محكوماً بقوّة الموقع وليس بقوّة البرنامج السياسيّ أو الاقتصاديّ أو حتى العسكريّ. وقد دلّت التجربة أن هذا الموقع تحديداً هو الذي يعطي للاسم خصوصيته وليس العكس، لا سيما من جانب الذين لا يملكون حيثية. فتغطية عواصم القرار تهدف إلى الحفاظ على الموقع، وليس انطلاقاً من الصفات التي تخوّل صاحبه القيام بدور أوّل. ومعركة جوزف عون وباسيل الرئاسية ستفتح الباب أمام اجتهادات كثيرة، وتأويلات داخل البيت العوني الموزّع قلبه بين الجيش والتيار. صحيح أن علاقة باسيل – جوزف عون ليست العلاقة المثالية التي كان يُفترض أن تحصل بينهما، لا بالرؤية ولا بالتعيينات ولا بالمقاربة لموقع قيادة الجيش في المعادلة الداخلية، إلّا أن الأشهر الأخيرة حملت تبعات إضافية عليها. ومع أداء قائد الجيش غير الملتبس رئاسياً، يصبح باسيل على حذر أكثر منه، ومندفعاً أكثر في اتجاهات متنوعة، مستفيداً مما راكمه سياسياً سلباً أو إيجاباً في السنوات الأخيرة، ومن موقعه كرئيس حزب سياسي من الصف الأول وكوريث سياسي. وهنا تكمن أهمية الكلام عن النظام، فقائد الجيش يدخل لائحة المرشحين، من دون خلفية أو برنامج سياسي (يحاول بعض المستشارين صياغته له)، أو اقتصادي – مالي كما كانت حال سلامة. كل ثقله أنه قد يكون في الموقع المناسب في لحظة مناسبة حين تحتدم الخيارات الداخلية، ولا يستطيع إلّا أن ينتظر هذه اللحظة. في حين أن باسيل يملك حرية الحركة من قلب اللعبة السياسية، وقد بدأ معركته حتى قبل أن يصل الرئيس عون إلى قصر بعبدا. لكن كلامه في هذه المرحلة تحديداً، يُعدّ مشكلة في حدّ ذاتها، لأنه يدفع بمعارضيه أصلاً، عدا موقف حلفائه منه، إلى تبنّي خيارات رئاسية أخرى، بما في ذلك قائد الجيش، ما دام هؤلاء يعتبرون أن كلام باسيل تغطية لموقف حزب الله من الطائف ورغبته في تعديل النظام. وفرْزُ المرشحين بين مؤيد للطائف ومعارض له، سيضيف إلى عزلته المسيحية سبباً آخر، كما كانت حال الرئيس ميشال عون في التسعينات، في مقابل من يدعون إلى التمسك بالطائف، بما في ذلك بكركي. رغم أن الأخيرة حاولت مع بداية عهد البطريرك ماربشارة بطرس الراعي الترويج لعقد لبناني جديد قبل أن تتراجع عنه وتعارضه.