IMLebanon

عون ــــ الحريري ــــ باسيل: الحكومة المعطوبة

 

 

مذ وقعت القطيعة الثانية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري بعد اجتماعهما في 22 آذار، وكانت سبقتها أولى استمرت 50 يوماً، اتّخذ الخلاف على تأليف الحكومة مساراً مختلفاً تماماً. أصعب ما في التأليف ما يضمرانه للمرحلة التالية

 

حتى وقوع القطيعة الثانية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، وانقضى عليها إلى الآن 18 يوماً، دار السجال المباشر وغير المباشر على التفسير المتناقض، المتنافر، لنطاق الصلاحيات الدستورية لكلّ منهما. بدَيا يخوضان في الظاهر معركة دستورية أكثر منها سياسية، مرتبطة بالمعايير التي وضعاها للحكومة الجديدة، وأخضع كل منهما دوره في مرحلة التأليف لهذا التفسير أو ذاك، على نحو جعله يتشبّث بشروطه.

 

دار كل هذا السجال بعدما تأكد أن معظم ما في المسودة الحكومية التي اقترحها الحريري حُسم، بعد سلة اتفاقات وتعهدات قطعها للثنائي الشيعي ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية، ناهيك بأنه حصر بنفسه اختيار الوزراء السنّة. الباقي العالق، الأساسي بدوره في التأليف، هو الحصة المسيحية. مع ذلك تواصل الجدال في سياق دستوري حيالها، ما تسبّب في انقضاء أشهر على تعذّر الاتفاق. ما بعد اجتماعهما الأخير في 22 آذار، صار التأليف في مسار مغاير، أعاد التأكيد عليه دوران الجهود الفرنسية والعربية المتتالية في حلقة مفرغة، إلى حد قارب تيئيسها من جدوى وساطتها.

تعذُّر تأليف الحكومة أحال باسيل ناخباً رئيسياً فيها وصاحب فيتو(هيثم الموسوي)

 

ما أضحى عليه الاستحقاق الحكومي الآن، أنه عند الرئيس المكلف وعند رئيس أكبر كتلة نيابية ورئيس الكتلة المسيحية الأكبر في المجلس النائب جبران باسيل. انتقل الحريري من اشتباكه مع شريكه الدستوري رئيس الجمهورية، إلى آخر مع صاحب الفيتو القادر على منع تأليف الحكومة ما لم يكن جزءاً لا يتجزأ من التفاهم عليها.

مع أن باسيل جهر مراراً أنه لا يريد المشاركة في الحكومة الجديدة، ولن تمنحها كتلته الثقة، إلا أن وجوده في المعادلة الرئاسية بصفته رئيس حزب الرئيس المُعدّ أكبر الأحزاب المسيحية في الشارع والحكم، وكذلك في صلب تحالف مع حزب الله يستمد منه قوته وتأثيره، ويجعله يستفيد من حساسية التوازن القائم داخل الثنائي الشيعي هو العارف بمناوأة الرئيس نبيه برّي له، أضف انكفاء ندّيه المسيحيين حزبي الكتائب والقوات اللبنانية عن المواجهة في لعبة السلطة، فيما لا يعدو تمثيل فرنجية أكثر من الحجم الصغير الذي يمثله مناطقياً والحماية الكبيرة الموفَّرة له من الثنائي الشيعي… ذلك كله، يجعل باسيل أقرب ما يكون إلى «ناخب» لا يُستغنى عنه في إدارة مرحلة تأليف الحكومة.

 

التكليف ليس كافياً للتأليف ما لم يُفضِ إلى تسوية إمّا متوازنة أو مذلّة

 

 

ما بات معلوماً أن التكليف حتميّ وضروري لكنه ليس كافياً للتأليف، أيّاً طال زمنه في جيب صاحبه، ما لم يُفضِ في نهاية المطاف إلى تسوية تكون تارة منصفة وعادلة، وطوراً مقبولة ومتساهلة. لكن الحاجة إليها قد تجعلها مهينة ومذلة حتى.

يعزّز تصلب باسيل إصرار الحريري على إنكار دوره وموقعه تماماً، والاعتقاد بأن الصلاحية الدستورية المعطاة إليه لتأليف الحكومة، شريكاً لرئيس الجمهورية، تمكّنه من إيصاد أبواب كل حوار معه، مع أنه حاور حاملي المفاتيح الشيعية والدرزية واسترضاهم في الحكومة العتيدة. مع ذلك أخفق، وهو يكابر في تجاهل خصمه، في فرض مسودته عليه وعلى رئيس الجمهورية.

في المقابل اصطدم الاتفاق بينه وبين عون بالمشكلة نفسها. خوّل الحريري نفسه، في سابقة غير مألوفة لأي من أسلافه منذ اتفاق الطائف بمن فيهم والده الراحل، تحديد حصة رئيس الجمهورية ومقاسمته إياه الحصول على المقاعد المسيحية إلى حدّ الظن بإمكان إرغامه على القبول بها، فيما لم يسبق له أن فعل في أي من حكومتيه السابقتين في العهد الحالي. في حكومة 2016، بتفاهم رضائي مع عون، حصل الحريري على ثلاثة وزراء مسيحيين، أحدهما قايض به وزيراً سنّياً في حصته في حكومة ثلاثينية، فيما لم يحصل في حكومة 2019 سوى على مقعد مسيحي واحد حلت فيه الوزيرة فيوليت الصفدي باتفاق الحريري وباسيل على أن تكون قاسماً مشتركاً بينهما، على أن تقترع إلى جانب وزراء باسيل عند حصول خلاف بينه والحريري في مجلس الوزراء. في المقابل تخلى الحريري عن مقعد سنّي لخصومه في اللقاء التشاوري السنّي.

ما يرافق تعثّر التأليف حالياً، جملة عقبات تحيل أي فرصة لإبصار حكومة جديدة النور مستحيلة حتى إشعار آخر، أبرزها:

1 – ليس لدى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وباسيل، مجتمعين ومنفردين، سوى Plan A. مفاد ذلك أن تصلبهم يتركز على تأكيد ما يصرّ كل منهم عليه ورفض ما عداه. أخفقت – أو أوشكت – اقتراحات قديمة وجديدة لتخفيف وطأة عنادهم. لا أحد منهم بعد يفكر في Plan B، أو التنازل جدياً عن جزء من شروطه. بل يوحي بأن ثمن التنازل الصغير من هذا يساوي تنازلاً كبيراً من ذاك. كل تساهل بات يعني أن ثمة ما هو أكثر من رابح وأكثر من خاسر. ثمّة من كسر رأس الآخر.

2 – مقدار ما يريد الحريري توجيه رسالة إيجابية – من طرف واحد – إلى الرياض، مؤدّاها أنه لا يزال السنّي الأقوى غير المستغنى عنه، القادر على شدّ عصب طائفته من خلال شروطه، يؤكّد لها في الوقت نفسه أنه يركض وراء الحكومة التي تتطلبها بالمواصفات التي وضعتها السعودية: يفقد فيها رئيس الجمهورية وحزب الله أي تأثير، وتستبعد باسيل نهائياً عنها. كذلك يتصرّف رئيس الجمهورية كما لو أنه لن يسمح لما تبقى من ولايته بمزيد من الخسائر التي لحقت بها. هو الآن على أبواب انتخابات نيابية عامة مفترضة بعد 13 شهراً، وانتخابات رئاسية مفترضة بعد 16 شهراً. لكنه أيضاً أمام استحقاق افتراضي ثالث يُعدّ الأخطر والأكثر احتمالاً وتوقّعاً، هو حصول شغور ما بعد انتهاء الولاية، ما يتيح للحريري، على رأس حكومة يريدها بمواصفاته، أقوى اللاعبين في انتخابات رئاسة 2022.

ما يعني الرئيس أن لا يكتفي بدور الشريك الدستوري في التأليف، بل أيضاً الشريك السياسي في قرار المرحلة المقبلة من خلال حزبه وكتلته النيابية. الأمر نفسه عند باسيل. على غرار دوره الحالي كناخب مؤثر في تأليف الحكومة، يتطلع إلى أن يكون الناخب المسيحي الأقوى في اختبار 2022، ما دامت العقوبات الأميركية تعرقل حتى الآن على الأقل ترشحه.

3 – لم يعد خافياً أن كلّاً من عون والحريري يفضّل التخلص من الآخر، من غير أن يسعه أن يفعل. الأول تحكم وجوده في السلطة ولاية دستورية غير آيلة للسقوط أياً تكن ذرائعها السياسية، والثاني يشد عضده استنفاره طائفته إلى جانبه وتوازن القوى الداخلي الذي يحتاج إليه الثنائي الشيعي كي يحافظ على استقرار البلاد وفي الوقت نفسه أن يكون أقوى الأفرقاء من أجل أن يظل صاحب دور ضابط الكل. بذلك تمسي المساكنة بين الرئيسين متعذّرة، صعبة، مهدّدة، ثقيلة الوطأة على حكومة قد يرغمان على القبول بتأليفها، من غير أن ترجح كفة أيّ منهما عليها، ويتسببان بشلّها تماماً وإعطاب دورها، وإعطاب كل ما سيليها.