يسجل لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون محاولاته المستمرة للتمسك بالدستور وتطبيق ما ورد فيه، مستخدماً صلاحياته. في المقابل، تبدو مهمة التغيير التي تقوم بها حكومته الاولى مستحيلة، بعدما تحوّلت إلى حكومة الخدمات الاولى
حاول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون التأكيد، في ثلاث مناسبات أساسية، أنه قادر على تثبيت موقع رئاسة الجمهورية من خلال الصلاحيات المعطاة له في الدستور، وإعطاء صورة «سياسية» مختلفة عمّن سبقوه من الرؤساء أمام الرأي العام. فهو استخدم أولاً صلاحياته في الامتناع عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة رغم توقيع رئيس الحكومة له، كما استخدم صلاحياته المنصوص عليها في المادة 59 لوقف انعقاد المجلس النيابي لمدة شهر واحد.
وما لفت أخيراً أنه سعى الى وقف التعامل مع الأعراف التي كانت سائدة خلال الحكومات السابقة، والعودة الى المواد الدستورية فقط، كما جرى قبل أيام حين حضر وزير الدفاع يعقوب الصراف مع قائد الجيش العماد جوزف عون الى السراي الحكومي، عملاً بالمادة الدستورية 64 التي تنص في الفقرة 8 على أن رئيس الوزراء يعقد «جلسات عمل مع الجهات المعنية في الدولة بحضور الوزير المختص». وهذا يؤسّس لحالة جديدة يفرض فيها العهد إيقاعاً دستورياً مبنياً على عدم المس بصلاحيات السلطات المختصة، لكن من دون القفز فوق المواد الدستورية، مهما كان نوع الأزمات المطروحة. يضاف الى ذلك صدور قانون الانتخاب على أساس النسبية التي كان يعوّل عليها عون، وإن جاءت مخالفة لطرحه الاساسي من حيث توزيع الدوائر وتفاصيله التقنية.
لكن هذا الكلام الدستوري لا يغني، في المقابل، عن وقائع أساسية تحكم صورة الحكم ككل. وقد بدا واضحاً التململ من أداء العهد والحكومة معاً في ملفات أساسية. فحتى الآن، لم تترك ثنائية رئاسة الجمهورية والحكومة أي بصمات في ملفات تهم المواطنين الذين لا تعنيهم تماماً المحاولات التي يقوم بها رئيس الجمهورية للتمسك بالدستور، مهما كانت هذه الوقائع أساسية في إدارة الحكم وتفعيل عمل المؤسسات. فالناس تعنيهم حالياً، بعد مراحل الانهيار في مؤسسات الدولة وتراجع تقديم الخدمات على مختلف الصعد، ملفات حيوية اجتماعية واقتصادية وصحية تبدو حالياً عصيّة على التطبيق رغم محاولات «إعلامية» مكثفة لتصوير ان عملية الاصلاح والتغيير قائمة بقوة. لكن الحقيقة هي أنه في موازاة الثقافة الدستورية التي يحاول تظهيرها، لم يجد العهد بعد طريقه نحو الاصلاح، خصوصاً أن الملفات التي يشكو منها الناس أثارت موجات من الالتباسات وحملات التشكيك، كما في ملفّي الكهرباء والنفايات اللذين يراوحان مكانيهما شأنهما شأن العديد من الملفات الحياتية. يضاف الى ذلك الخلاف الجديد حول آلية التعيينات، وما يثيره من انطباعات لا توحي بتطبيق مفاهيم الاصلاح والتغيير في هذا العهد، فضلاً عن الانجراف الاعلامي ــ التسويقي لمشاريع وخدمات لم يظهر حتى الآن أنها وضعت على سكة التنفيذ الفعلي.
لكن بعد إقرار قانون الانتخاب، تصبح مشكلة العهد حرجة أكثر. وإذا كانت النسبية بالنسبة الى العهد هي بداية الاصلاح، فإن ما يجري على خط الاستعداد للانتخابات لا يبشر بالخير. فموسم الانتخابات النيابية الذي بدأ مبكراً موسم خدمات بامتياز، مهما حاولت التيارات السياسية أن تنزّه نفسها وتترفّع عن المفهوم الخدماتي الذي تسعى اليه كلها من دون تمييز. وإلا ما معنى أن تتمسك القوى الرئيسية بوزارات الخدمات، عند تأليف الحكومات، بقدر ما تتمسك بالوزارات السيادية إن لم يكن أكثر. ولم تشذّ حكومة الرئيس سعد الحريري عن ذلك، حين تنافست الاحزاب على تقاسم حقائب الخدمات، خصوصاً أنها شُكّلت على أساس أنها حكومة انتخابات، وهي لا تزال كذلك، ولو مدّد لها 11 شهراً إضافياً.
ومع حكومة رئيسها مرشح للانتخابات وأعضاؤها الوزراء إما مرشحون أساسيون أو تابعون لتيارات وأحزاب تريد الافادة من الوزارات لتقديم خدمات وزارية للناخبين، كيف يمكن للعهد أن يتصرف؟ وكيف سيتعامل رئيس الجمهورية مع هذا الواقع، حين تتحول حكومته الى حكومات خدمات تنافسية لاجتذاب أصوات الناخبين، بدل أن تكون حكومة العهد الاولى بالمفهوم الذي حدد بنفسه أولوياته في خطابه السياسي؟ وكيف يمكن أن يبدّد الانطباعات بأن الحكومة التي يفترض أن تنفذ سياسة إصلاحية، هي نفسها التي تغرق في سياسة توزيع المكاسب والمصالح بحسب ما تقتضيه مصالح أحزابهم السياسية وتحالفاتهم الانتخابية؟ وهل يمكن لرئيس الجمهورية أن يعزل نفسه عن حكومته إذا أراد ان يكون حكماً، وفوق الوزارات التي تتسابق حالياً لتقديم خدمات من شتى الانواع للناخبين وللمرشحين الحلفاء والاصدقاء؟ وهل يمكن أن يقبل بواقع سياسة الإقصاء والحرمان أو البحبوحة التي تتعامل بها الوزارت الخدماتية مع مناطق على حساب أخرى؟ وكيف يمكن له أيضاً أن يبقي نفسه محايداً حتى عن التيار الوطني الحر الذي له حصته أيضاً من الوزارات الخدماتية ومن الخدمات التي يقدمها أيضاً أو يطلبها تزامناً مع فصل الانتخابات.
في مثل هذه الايام من السنة الماضية كان عون يستعد للوصول الى قصر بعبدا. لكن المشكلة أنه بقدر ما رفع سقف الآمال بالإصلاح والتغيير خلال أشهر، يمكن للانتخابات النيابية بالطريقة الخدماتية التقليدية المعتمدة حالياً أن تتحول مكسراً للإصلاح.