لم يترك انفراط عقد المشاورات الحكومية أثره على الطرفين المعنيين مباشرة فحسب. توسّع التوتر بين بعبدا وبكركي، على خلفية تأليف الحكومة، يترك تأثيرات على الموقِعين وعلى مستقبل العلاقة بينهما، مع ذهاب لبنان الى احتمالات غير متوقعة
لن يتطور الخلاف بين رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار الوطني الحر مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى مشهد صالون الصرح عام 1989 مع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير. الظروف مختلفة والشخصيات المؤثرة في العلاقة ومستقبلها مختلفة أيضاً، سواء في بكركي أم في القصر ومركزية التيار حيث القرار واحد. ورغم أن سحباً سوداً تتمدّد بين الطرفين، ثمة من تعلّم أن هناك طرقاً أفضل لتطويق تدخل بكركي في الشأن الوطني، بدل التهديد بأن ينبت العشب على درجها. كما تعلّم أن الحفر في قلب البيت الكنسي، يحفظ لموقعه السياسي وجوداً فاعلاً، وهو ما لم تكن عليه الحال قبل ثلاثين سنة. في المقابل، لا يمكن الكلام عن خطاب متماسك أو خط تصاعدي متجانس في بكركي، رغم أنه يجد صدًى شعبياً لدى جمهور سياسي، سواء لجهة النبرة العالية أم الكلام عن أسباب التعثر الحكومي وتحميل المسؤوليات، مع تحييد مطلق للمصرفيين المسؤولين عن الانهيار المالي.
في تموز الفائت، خُيّل للراعي أن يقوم بمبادرة الحياد التي اصطدمت بحائط مسدود، بفعل تأثيرات داخلية. الفكرة التي أُجهضت، نتيجة عوامل موضوعية، أسقطت معها فاعلية الدور، بسبب الإطار الذي رسمه مستشارون، وأسهم في عدم التعامل معها بجدية، فضلاً عن شخصية الراعي وتقلباته السياسية. هناك من يشهد للبطريرك بأنه، على الأقل، يسعى للقيام بمبادرة ما، وإن كانت تبقى في الإطار الإعلامي والصورة التذكارية. لكن هذا المسار هو ما أجهض فكرة عقد لقاء موسع أو رباعي في بكركي قبل أشهر قليلة، إذ رفضت القوات اللبنانية الحضور ما لم يكن هناك مشروع واضح، ولعدم ثقتها بالتزام التيار بما يصدر عنه، ما دام قد «نكث باتفاق معراب الذي وقّعه». الأمر نفسه وضع بكركي، مجدداً، أمام حائط مسدود، نتيجة التحرك في الملف الحكومي، ورفع التوتر عالياً بين بكركي وبعبدا.
ليست مواجهة بين مستشارين ووزراء سابقين هي التي جعلت بكركي وبعبدا على طرفي نقيض. لكن هؤلاء أسهموا أيضاً في تزكية التوتر، نتيجة تقديم الشخصنة على علاقة منتظمة، ليس بين موقعين «وطنيين» كأحد التعابير – الكليشيهات، بل كموقعين مارونيين هما الأعلى منزلة كنسياً وسياسياً. أن يختار الرئيس ميشال عون عدم الذهاب الى بكركي يوم عيد الميلاد، لا يشبه بشيء امتناع الرئيس إميل لحود عن الذهاب اليها عام 2006. الأخير كان رئيساً للجمهورية من دون تيار أو حزب سياسي، أي من دون انعكاس الخلاف على جمهور حزبي واسع، كما هي الحال اليوم، علماً بأن صفير لم يبادر لحود بالمثل، بل تصرف يوم نادت قوى 14 آذار بإسقاطه في الشارع، بضرورة الحفاظ على رئاسة الجمهورية، رغم ما تردّد حينها عن أن لحود امتنع عن الزيارة لأنه كان ممتعضاً من رسائل صفير له بضرورة التصرّف وحده لإخراج البلاد من الأزمة.
من يقرأ خطاب الراعي ويسمعه، لا بد أن ينصف الرجل الذي يتحرك لإخراج لبنان من أزمته عبر تأليف الحكومة. لكنّ المحيطين به أخطأوا بدفعه الى الدخول في تفاصيل الأسماء والحقائب وزواريب المفاوضات بين بعبدا وبيت الوسط، وما يقال عن أن بكركي قدمت اقتراحاً بتوزير وزراء سابقين رفضه عون والحريري على السواء، وسط إصرار على مرشحين جدد. فتأليف الحكومة فخ في حد ذاته، وأي مفاوضات من هذا النوع تحرق العاملين بها، وتحرف تدخل بكركي عن المسار الوطني العام. لكن في مقابل التعثر الحكومي، بدأ خطاب بكركي يتركز حول نقطتين: الامتعاض من حزب الله ومن تأثير دوره السياسي العام في ظل علاقة متوترة بينهما، والفشل المتراكم في عهد رئيس قوي يترك بصمات سلبية على فكرة الرئيس القوي الذي كان هو أحد رعاتها في اجتماعات بكركي، ما سيؤثر مستقبلاً على الانتخابات الرئاسية المقبلة، والعنوانان يكسبانها تأييداً لدى شريحة من رعيتها. حاولت بكركي تحت هذا السقف أن تجد سبيلاً الى تأليف حكومة، على افتراض أن عوامل التأليف محلية. وإذا كان الرئيس المكلف سعد الحريري خطا خطوة لسحب فتيل أي توتر طائفي بسبب معركة الصلاحيات، فإن التيار في المقابل ظهر بزيارة الوزير جبران باسيل للصرح، حافظاً لحقوق المسيحيين، وهو الخطاب الذي يترك أثراً فاعلاً لدى جمهوره وشخصيات كنسية. لكن الأبرز أنه نجح في عدم الظهور بمظهر المعارض للراعي وتحركه، وهو الأمر الذي يحرص عليه دائماً ومعه شخصيات نيابية ووزارية في عدم قطع الصلة معه، علماً بأن بكركي حاولت اللعب على بعض تناقضات البيت العوني من خلال بعض الدعوات اليها، مفترضة على خطأ أن هناك من يجرؤ على طرح خطاب حول تأليف الحكومة بغير توجهات عون وباسيل. ومع انفراط المفاوضات، يتجدد الرهان على خطوات جديدة من الصرح، بعد تلمّس موقف الفاتيكان واتصالاته الاميركية والاوروبية لتفعيل عملية إنقاذ لبنان وتأليف الحكومة.
الكلام عاد ليتردد عن مستقبل البطريرك وعن احتمال استقالته من منصبه
في المقابل، لم يأخذ الذين قرروا الافتراق عن بكركي، بعد علاقة ودّ طويلة، كثيراً من الجهد لتعزيز مواقفهم، من دون كسر الجرة معها، استناداً الى جملة معطيات: أولاً، تخبّط بكركي المستمر عنصر مساهم في عدم حشد جمهور حولها. ثانياً، منظّرو بكركي الحاليون لا يشكلون قاعدة سياسية وحزبية عريضة تلتف حول خطابها مهما كان سقفه عالياً كما حصل مثلاً مع قوى 14 آذار. ثالثاً، كفة الغلبة السياسية لا تزال تميل الى بعبدا والتيار بفعل أحداث محلية وإقليمية، والرهان على عقوبات على التيار أعطى مفعولاً داخلياً معكوساً. رابعاً، لأن أجواءً تصل من الفاتيكان تتحدث عن عدم رضى فاتيكاني عن أداء الراعي، من دون أن يعني ذلك مطلقاً انحياز الكرسي الرسولي الى بعبدا، لكن «تحييد الفاتيكان نفسه عن مبادرات الراعي» عنصر مساهم في تعزيز موقف العونيين من مبادراته. هناك حلقة خامسة وهي الأهم: يصل الى مسامع هؤلاء أن الكلام عاد ليتردّد عن مستقبل البطريرك وعن احتمال استقالته في موعد قد يكون قريباً من مرحلة استحقاقات حاسمة في لبنان، ما يفترض العمل لاختيار خليفة يماشي الجو السياسي الرئاسي ولا يعارضه. هذا الأمر يتردد من حين الى آخر، من دون أي ثوابت ملموسة، لكنه بدأ يأخذ صبغة فرز الاسماء الموالية والمعارضة للعهد وللمرشح لخلافته. هناك مطارنة بدأوا يتحركون علانية، على خلفية سياسية واضحة، وقد بدأ احتساب عددهم، على قاعدة وضع أنفسهم مرشحين مستقبليين، عدا عن الناخبين الأقوياء، علماً بأن الجو السياسي العوني يتمدد داخل الكنيسة وداخل الرهبانيات، وبعضها كان لدى التيار حضور فيه كالأنطونية. لا شك في أن ما قام به باسيل على هذا الصعيد لافت، لأنه ثبت خطوات فاعلة مع رهبانيات كانت تاريخياً في غير الموقع الحالي، كعلاقته بالرهبانية المارونية، واستئجار الأرض منها لبناء مركز التيار الرئيسي في نهر الكلب، وشبكة علاقات مع رؤساء أديرة مباشرة ومؤسسات كنسية فاعلة. هذا كله يرسم نوعاً مركّزاً من علاقة التيار بالكنيسة، لا صلة له بمشكلة تأليف الحكومة أو غيره من العناوين السياسية، لكنه يراكم حضوراً لافتاً على مدى سنوات، يؤسّس لأي استحقاقات مقبلة.