IMLebanon

عون يَشتري الوقت

 

حتّى الآن، نجَح رئيس الجمهورية العماد مشال عون في تجنيب لبنان التداعياتِ الخطيرة الناجمة من تلاوة الرئيس سعد الحريري لبيان استقالته من السعودية منذ أكثر من اسبوع.

لم يذهب لملاقاة النصّ وما تضمَّنه، بل قام بعمليةِ التفافٍ طارحاً الكشفَ عن الظروف غير المنطقية التي حتَّمت على الحريري تلاوة بيانه، وانطلق في حملة داخلية وأخرى ديبلوماسية خارجية عنوانها فكّ الحجز الذي يتعرّض له رئيس الحكومة اللبنانية.

هو نجح في ذلك بتحصين الواقع اللبناني الداخلي، وفي الوقت نفسه في تحويل الأزمة من أزمة استقالة الى أزمة احتجاز حرّية رئيس الحكومة، وسجّل بذلك نقاطاً كثيرة، لكنّ الطريق لا يزال في بدايته.

ففي نهاية الاسبوع الماضي، أصدرت كتلة «المستقبل» إثر اجتماع طارئ لها بياناً بدا مختلفاً بشكل كامل عن البيانات التي سبقت منذ تلاوة الحريري بيان استقالته.

فقد تضمَّن البيان الأخير تأييداً للسعودية ولسياستها في مواجهة إيران و»حزب الله»، وتبيَّن أنّ الحريري كان قد اتصل نهاراً طالباً انعقادَ كتلته النيابية استثنائياً وإصدار هذا البيان، وهو ما يؤشّر الى ترتيب ما جرى التوصّل إليه بين الحريري والمسؤولين السعوديين.

ويَعتقد كثيرون أنّ ما كان قد سبق ذلك ناحية طرح اسم بهاء الحريري بديلاً عن سعد أسهَم بشكل كبير في التعجيل في إنجاز التفاهم بين السعوديين والحريري. وإثر ذلك ظهر للمرة الثانية مع الملك السعودي، والأهمّ كان التحضيرات التي جرت لإطلالته الإعلامية والتي تضمّنت تأكيداً على قرار استقالته.

علماً أن الاقتراح كان في البداية أن يزور الحريري البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في مقرّ إقامته في السعودية حيث من الطبيعي أن يبادرَ الوفدُ الإعلامي الكبير الذي يُرافق البطريرك الى سؤاله عن استقالته، فيتولّى الحريري التأكيدَ على ذلك.

لكنّ ثمّة مَن فضّل عدم إحراج البطريرك بهذا الإخراج، فجاء الاقتراح الثاني بإجراء مقابلة عبر شاشة «تلفزيون المستقبل» المملوكة من الحريري وتمرير كل النقاط المتّفَق عليها.

ولأنَّ هذه المعلومات كانت قد وصلت الى بيروت، بادَر رئيس الجمهورية وأصدر بياناً رفض فيه مسبَقاً أيَّ تأكيد من الحريري وهو خارج لبنان.
الأوساط القريبة من الحريري باتت تتحدَّث عن زيارة قريبة الى بيروت ستتمّ خلال الأيام القليلة المقبلة، حيث سيزور قصر بعبدا معلناً تمسّكه الكامل ببيان استقالته.

صحيح أنّ حصول هذه الزيارة القصيرة طُرح أكثر من مرة من دون حصولها، لكنّ هذه المصادر تقول إنّ المسألة باتت محسومة بعد إنجاز التفاهمات المطلوبة في السعودية.

وقد يكون رئيس الجمهورية مدرِكاً ضمناً بأنّ العودة عن استقالة الحريري باتت مسألة صعبة لكي لا نقول مستحيلة، ولكنه في الوقت نفسه يحاول كسبَ الوقت، وهو الذي يُدرك تماماً أنّ فتحَ ملف حكومة جديدة سيفاقم من حدّة الأزمة السياسية وسيضع الواقع اللبناني امام المجهول.

ولذلك سيتمسّك اكثر في سياسة التريّث وشراء الوقت طلباً للفرج، ذلك أنّ السقف الشاهق الذي وضعته السعودية والذي تبنّاه الحريري راضياً أو مكرَهاً لا فرق، يشكّل عائقاً كبيراً امام ولادة حكومة جديدة.

فالموقف الذي التزم به الحريري يرفض التعاون الحكومي مع «حزب الله» وينقض روحيّة البيانات الوزارية السابقة، وطبعاً من المستحيل أن يقبل «حزب الله» بذلك، إضافة الى أنه يستحيل تشكيل حكومة لا يوافق عليها «حزب الله» او على الأقلّ لا يعترض عليها.

كما أنّ حكومة تكنوقراط لا تصلح لأنّ يترأسها الحريري نفسه، أضف الى ذلك أنها ستعني خلوّها من تمثيل سياسي لـ«حزب الله»، ما يعني أنّ الحزبَ يرفضها، هو أبلغ رئيس الجمهورية بذلك. فالمنطقة امام استحقاقاتٍ كبرى، والملفات في سوريا متداخلة ومرحلة الضغوط عليه بدأت، فكيف له إذاً أن يرضى بمواجهتها وهو مكشوف الرأس وخارج الحكومة.

ووفق هذه الحسابات السريعة، فإنّ من البديهي الاعتبار بأنّ فتحَ هذا الباب سيعني إدخال البلاد في دهليز مظلم. لذلك بادر عون الى إسكات بعض الاصوات القريبة منه والتي حضّته على تشكيل حكومة انتخابات. كان يُدرك أنّ هذه المواقف تفتقد الى التعقّل لأنّ ذلك سيعني حكومة مواجهة، وبالتالي نقل البلد الى الاضطراب.

ولكن كيف سيتصرّف في حال صدقت المعلومات حول عودة قصيرة للحريري الى بيروت هذا الاسبوع!
يعود الرئيس الى الدستور ليتحصّن بالمادة 53 التي تقول صراحة إنّ رئيس الجمهورية يُصدر منفرداً المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة.

وهذا الحقّ الذي يعطيه إياه الدسور «منفرداً»، يجعل منه صاحبَ القرار بإعلان قبول الاستقالة والعمل بموجب ذلك. لذلك، وفي حال قدوم الحريري سيأخذ وقته في درس الوضع قبل أن يعلن قبوله الاستقالة لتصبحَ نافذة.

وبمعنى آخر لن يعلن قبوله الاستقالة قبل ضمان الحكومة المقبلة، أي أنّ هذه الحكومة ستستمرّ ولو وفق صيغة «تصريف الأعمال»، في انتظار «بصيص ضوء» يسمح لاحقاً بإعادة تكليف الحريري وتمديد فترة «كسب الوقت».

أضف الى ذلك، أنّ قبول استقالة الحكومة وسط حملات سياسية بدأت تظهر وستأخذ طابعاً عنيفاً ضد «حزب الله»، سيضع البلد كلّه أمام مخاطر اضافية، وهو الذي يرزح أصلاً تحت أثقال متعدّدة أبرزها أوزار الصراع الدائر في سوريا والنازحون السوريون في لبنان. فالمنطقة تمرّ بمنعطفات حادة وتسويات كبيرة ستطاول لبنان، وإن بطريقة غير مباشرة.

ففي غزة عاد التنسيق الأمني الكامل والى أعلى مستوياته بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وهو ما يُثير حفيظة كوادر «حماس»، ذلك أنّ السلطة استلمت المعابر والمفاصل الميدانية المهمة على الأرض في غزة، وتحت إشراف المخابرات المصرية.

في هذا الوقت، بدأ الترويج لخطة سلام أميركية بين إسرائيل والفلسطينيّين بمباركة عربية – خليجية. هذه الخطة ستُصبح مكتملةً بعد أشهر معدودة وتتضمّن تطبيعاً للوضع بين إسرائيل ودول الخليج العربي، مثل فتح أجواء الطيران المدني ومنح تأشيرات الدخول لرجال الأعمال الإسرائيليّين، وفي المقابل لرجال أعمال خليجيّين، مع التذكير بالزيارة السرّية التي كان قد قام بها مستشارُ الرئيس الاميركي جاريد كوشنر الى السعودية برفقة وفد أميركي رفيع الشهرَ الماضي، واستمرّت أربعة أيام، وكانت الرابعة في أقل من سنة.

والأهمّ ما اتّفق عليه الرئيسان الأميركي والروسي على هامش القمّة الآسيوية حول التسوية في سوريا، وتردّد أنّه جرى الاتفاق مجدّداً على منطقة وقف اطلاق النار جنوب سوريا، والتي تتضمّن تأمين منطقة عازلة بعمق 20 كلم من الحدود الإسرائيلية، وألّا تتضمّن هذه المنطقة أيّ وجود إيراني أو لـ»حزب الله»، في وقت كانت قد نشرت شبكة «BBC» صوراً أُخذت عبر الاقمار الصناعية تُظهر بناء قاعدة عسكرية إيرانية على بعد نحو خمسين كلم من الحدود الإسرائيلية.

في لبنان، وجّه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله رسائل إيجابية خلال كلمته الأخيرة، وتضمّنت نقطتين اهتمّت لهما العواصم الغربية كثيراً، الأولى تتعلّق بالتمسّك بالاستقرار الامني في لبنان، والثانية تشير تلميحاً الى احتمال انسحاب «حزب الله» من سوريا مع انتهاء الحرب فيها.
لذلك بدت العواصمُ الغربية حذرة في مجاراة التصعيد السعودي.

وهذا ما دفع بفرنسا مثلاً للتحرّك مرة عبر رئيسها الى السعودية، ومرّة أخرى عبر قنواتها الديبلوماسية في واشنطن للمساعدة في التخفيف من «الطحشة» الحاصلة. وهذا ما أدّى الى صدور موقف واضح عبر وزير الخارجية الأميركية، وآخر عبر وزارة الخارجية الفرنسية للتخفيف من الاندفاعة السعودية تجاه لبنان.

كلّ ذلك صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ لواشنطن وباريس مصالح هائلة مع السعودية، كما تقول أوساط ديبلوماسية غربية، ما يعني أنّ واشنطن وباريس غير قادرتين على الذهاب بعيداً في ضغطهما المضاد، وأنّ على اللبنانيين إيجاد السبل الناجعة للتخفيف من وطأة الازمة الحاصلة.

لا تبدو الديبلوماسية الأميركية قادرة الآن على المساعدة في حلّ المأزق الحكومي الناتج عن خطوة استقالة الحريري، وهو ما يعني وجوب الاستعداد للتعايش مع أزمة حكومية طويلة يبدو أنها ستمتد أشهراً عدة في افضل الاحوال.