ليست المرة الأولى التي يُعلَن فيها عن تثبيت هدنة للقتال الدائر في سوريا. ففي شباط الماضي، أُعلن عن هدنة سرعان ما انهارت تحت وطأة استئناف العمليات العسكرية بعدما شكلت هذه الهدنة للقوى المتحاربة فسحة زمنية لتعزيز مواقعهم وقدراتهم القتالية.
لكنّ ثمّة جديداً في هدنة اليوم يجعلها مختلفة عمّا سبقها، ولو أنّ الآمال بتثبيتها نهائياً تبقى في إطار التفاؤل المبالغ به.
ليست المدة الطويلة والتي بلغت 14 ساعة متواصلة من المفاوضات بين وزيرَي خارجية الولايات المتحدة الاميركية وروسيا جون كيري وسيرغي لافروف هي ما ميّز الهدنة الحالية، بل سعي واشنطن وموسكو لأن تشكل الهدنة الحالية والقائمة على أسس جديدة مدخلاً للتأسيس لحلّ نهائي للصراع الدائر في سوريا منذ اكثر من خمس سنوات ونصف السنة.
فالرئيس الأميركي باراك أوباما يريد تسجيل هذا الإنجاز في سجلّه قبل مغادرته البيت الابيض، ولو من خلال الاكتفاء بتركيز البنية التحتية له فيما يجاريه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعيش هاجس عدم الانزلاق الى «فييتنام» روسية في الشرق الاوسط.
لكنّ هذين العاملين على أهميّتهما لا يبدوان كافيين للانطلاق نحو مسارٍ تسوَوي أكيد.
صحيحٌ أنّ واشنطن تمسك بالجوّ وببعض الخيوط الاساسية للميدان، وصحيحٌ أيضاً أنّ روسيا باتت القوة الاساسية وصاحبة الأمرة في سوريا بسبب إمساكها المباشر بكلّ غرف العمليات العسكرية التابعة للجيش النظامي السوري. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الاطراف المحلية والاقليمية الاخرى موجودة بفاعلية في ساحات القتال ولديها حساباتها ومصالحها، وعلى رأس هذه القوى إيران ودول الخليج.
لم تكن مصادفة تصفية القائد العسكري لـ»جبهة النصرة» قبل ايام معدودة من بدء سريان الهدنة المحدّدة بسبعة ايام قابلة للتجديد.
في العادة، فإنّ اغتيالاتٍ بهذا الحجم وتأثيراتها مباشرة على ميادين القتال وموازين القوى، إنما تحصل بعد كشف الجهة الإقليمية الراعية للتنظيم عن تدابير تخفي الشخص المستهدَف بعد التفاهم على انتهاء دوره ووقف المهمة الموكلة اليه. وهو ما يعني هنا نزع مخالب تنظيم «النصرة» الذي كان أعلن فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة» واستبدل اسمه.
الاغتيال أعطى مؤشراً واضحاً حول جدّية التوجّه الدولي ناحية تعبيد الطريق أمام التسوية، ورغم ذلك فإنّ كثيرين شكّكوا في احتمال صمود الهدنة فترة طويلة تسمح معها بالانتقال الى التسوية السياسية. ذلك أنّ إيران تحسب للاستحقاقات التي تؤثر في مسار العملية السلمية في سوريا، وفي طليعة هذه الاستحقاقات الانتخابات الرئاسية الأميركية المثيرة.
ولا يُعتبر الصمت الإيراني إزاء إعلان الهدنة في سوريا هو المؤشر الوحيد لموقف طهران، ذلك أنّ أوساطاً ديبلوماسية مطّلعة على خبايا الموقف الإيراني جدّدت تأكيدها أنّ إيران لن تدخل في أيّ خطوة سياسية تتعلق بالحرب القائمة في سوريا إلّا بعد ظهور نتائج الانتخابات الاميركية.
وحسب هذه الأوساط كيف للقيادة الايرانية أن تدخل بازار التسويات فيما هناك إمكانية لا بأس بها باحتمال وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب والذي تحدّث عن برنامج رئاسي يلحظ استهدافاً لإيران ونقضاً للاتفاق النووي الموقع مع ادارة اوباما.
لا بل تعتقد هذه الأوساط أنّ منح الحزب الديموقراطي ورقة التسوية في سوريا لاستخدامها في الحملات الانتخابية المشتعلة سيكون خطوة ساذجة، كما أنّ وصول ترامب سيعني اشتعالَ الجبهات العسكرية والسياسية على السواء في الشرق الاوسط، وسيقلّص اكثر من المسافة بين موسكو وطهران وبكين وسيضاعف من الضغط الموجود في الخليج وسيؤدي الى سقوط الرئيس الايراني حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية الايرانية، وهو الذي بدأ يعاني شعبياً بسبب عدم التزام واشنطن بعض البنود التي نصّ عليها الاتفاق النووي والتي تطاول الوضع الاقتصادي الايراني.
انطلاقاً من هذه الحسابات، تعتقد هذه الاوساط بأنّ حظوظ ثبات قرار الهدنة واحتمال تمديده ليست كبيرة وأنّ إيران قد تنتظر أن تُقدم التنظيمات المعارضة على خرق الهدنة وهي التي أعلنت عن عدم رضاها على بنودها.
ولأنّ الوضع في سوريا دقيق، يسعى «حزب الله» إلى إبقاء الساحة اللبنانية ضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار المطلوب. فالتفرّغ للصراع في سوريا والمرجّح أن يعاود اشتعاله يتطلب استقراراً في البيت اللبناني لعدم تشتيت جهود وتركيز قيادة «حزب الله».
أضف الى ذلك أنّ «حزب الله» التزم لدى العواصم الكبرى وبضمانة إيران، الحفاظ على الاستقرار الأمني اضافة الى الاستقرار السياسي من خلال الحكومة، وهو يخشى أن يؤدّي الهزّ بهذين المحظورين الى فتح ابواب الضغط مجدّداً عليه في لبنان. لذلك بدا غير متحمّس لخطوة العماد ميشال عون بتعطيل الحكومة.
صحيح أنّه تضامن مع حليفه في اللحظة الاخيرة، لكنّ هناك مَن يعتقد أنّ «حزب الله» ما كان قادراً على السماح بتوسيع الفجوة بينه وبين «التيار الوطني الحر»، أضف الى ذلك أنه يأمل أن تؤدّي خطوته الى احتضان مواقف العماد عون والتمهيد لتدوير الزوايا لاحقاً.
لكن في الزيارة الأخيرة التي قام بها وفد من «حزب الله» الى الرابية نهاية الاسبوع برئاسة وفيق صفا، بقي العماد عون على مواقفه لا بل ضاعف من حدتها. طرح الصورة برمتها وملف الاستحقاق الرئاسي وأنّ الوقت حان لإجبار الجميع على حسم الموضوع طالما أنّ استحقاق الانتخابات النيابية لم يعد بعيداً.
وهو ما يعني أنّ مجلس الوزراء سيبقى معطلاً الى أجل غير مسمى، وأنّ العماد عون يتحيّن ذكرى 13 تشرين ليطلق مواقف جديدة ووفق سقف أعلى. يريد عون خلط الاوراق ليلزم العواصم الكبرى التدخل لإنقاذ الاستقرار السياسي والذي شكل خطاً أحمر لها.
في المقابل، يبدو أنّ الرئيس سعد الحريري يستعد لملاقاة عون ولكن من زاوية أخرى وأسباب مختلفة، ذلك أنّ الحريري الذي يرزح تحت ثقل أزمته المالية والذي يعاني من تأثيراتها على شارعه وحتى على كتلته النيابية، وبالتالي على زعامته للطائفة السنّية، بدأ يحسب للانتخابات النيابية المقبلة.
وطالما أنّ آفاق الفرج مقفلة أمام أزمته المالية وأنّ خيار انتخابه لعون سينهي تأييد الشارع السنّي له، فهو قرّر على ما يبدو واستناداً الى نصائح فريقه أن يخرج من الحكومة وطاولة الحوار وينتهج مواجهة سياسية مفتوحة مع «حزب الله»، وهو ما سيسمح له باستعادة زمام القيادة في الشارع السنّي، وبالتالي خوض الانتخابات بأقل الأضرار الممكنة.
إلّا أنّ الحريري ينتظر على ما يبدو أن يحمل عون مسؤولية ضرب الحكومة وهو أعطى لنفسه مهلة إنجاز هذه الخطوة قبل نهاية السنة على أبعد تقدير.
لكن جاء مَن بدأ يهمس أنّ تأجيل الانتخابات النيابية لسنة إضافية خيارٌ ممكنٌ وقابلٌ للحصول، خصوصاً أنّ الطرف المسيحي يعلن رفضه حصول الانتخابات وفق القانون الحالي، وهذه الفكرة يسوّق لها بهدوء طرف دولي يهمّه استمرار الحكومة للحفاظ على الاستقرار السياسي.