في عام 2006، كان رئيس حزب التيار الوطني الحر السابق ميشال عون أول المقاتلين على جبهة حزب الله ضد الحرب الاسرائيلية على لبنان. موقف عون هذا ثبّت تفاهم مار مخايل، وحوّله إلى تحالف وثيق أكمل سنته العاشرة ولم يتعرض فعلياً لأيّ خضّات تذكر. وفي عام 2017، لعب رئيس الجمهورية ميشال عون الدور الأساسي في حماية رئيس الحكومة سعد الحريري، و«دور الطائفة السنية» في النظام، إذ تمسك منذ اللحظة الأولى بعدم قبول استقالة رئيس الحكومة، مطالباً بتحريره من الحجز السعودي. حمى بذلك موقع رئاسة الحكومة وشاغله ممّا كان يحاك له. وبعد هذه «المعمودية»، بدا واضحاً أن تحالفاً وثيقاً آخر، شبيهاً بتفاهم عون ــ حزب الله، نشأ أخيراً بين عون وآل الحريري وتيار المستقبل ستصعب خلخلته، علماً بأن هذا التحالف كان قد بدأ عقب التسوية الرئاسية. هكذا، تمكن رئيس الجمهورية من تحصين موقعه الوطني الجامع لكل الطوائف، فهو «رجل الأزمات»، على ما يصفه نوابه ووزراؤه ويصعب اقتياده الى تحدّ ما من دون أن يخرج مضاعفاً مكاسبه.
ولأنه عون «الثائر والمتمرد والرافض لسحقه»، لم ينتظر تواتر الأفكار اليه أو الوقوف عند آراء الدبلوماسيين الغربيين. وتشير الدائرة المقرّبة منه إلى أن «نبرة صوت الحريري في الاتصال الهاتفي بعيد الاستقالة جعلته يشكك في ظروف هذه الاستقالة منذ اللحظة الأولى»، لذلك اختار قيادة السفينة بنفسه وتطويع الدبلوماسية لمصلحته رغم همس البعض في أذنه بضرورة إبقاء احتمال قبول الاستقالة وإجراء استشارات قيد البحث.
وهذا الموقف، برأي المصادر، هو الذي أسّس لنجاحه في إدارة الأزمة والإسهام في تحرير الحريري وتأمين عودته القريبة. لاحقاً، نشأت خلية أزمة صغيرة مؤلفة من وزير الخارجية جبران باسيل، مستشارَي الرئيس جان عزيز والوزير السابق الياس بو صعب، النائبين إبراهيم كنعان وآلان عون مع حضور وزير العدل سليم جريصاتي أحياناً. وكانت مهمة هذه الخلية تدعيم موقف الرئيس وإجراء نقاشات جدية حول الخطوات المنوي اتخاذها، ومنها اللقاءات الثنائية بالأحزاب السياسية كافة. وفي أقل من 24 ساعة، كانت الوفود المعارضة والموالية، بما فيها «آرمات» الاحزاب، تبايع موقف عون في بعبدا، فسادت أجواء إيجابية بين اللبنانيين وذهول لحنكة لا يتقنها ولا ينجزها سوى من لهم تاريخ ميشال عون. فالإجماع الوطني والاستقرار قوّيا موقف لبنان الدولي، على ما تقوله المصادر، إذ إن الدول باتت مضطرة إلى مساندة هذا الإجماع الداخلي، في حين كانت لتبرد وتتردد لو كان هناك انقسام بين اللبنانيين. وكان أبرز ما تحقق هنا هو وضع اليد بيد رئيس مجلس النواب نبيه بري مجدداً، رغم كل الاختلافات القائمة، وتوافق القيادات السنيّة مع رؤية عون، بمن فيها المفتي عبد اللطيف دريان الذي أوصل إلى عون رسالة مفادها أنه على ثقة كاملة بما يقوم به وليس خائفاً على حقوق الطائفة أو وجودها ما دام هو رئيس الجمهورية. ففعلياً، يصعب تخيّل ما كان يمكن أن يحل بلبنان لو جرت تلك الأحداث في عهد ميشال سليمان أو غيره. غير أن هناك من فريق عون من يلفت الى أن الأزمة الراهنة لم تكن لتحصل في أي عهد آخر: «لأنه عهد ميشال عون، ولأنه قادر على فرض رؤيته وسياسته والتمسك بثوابته، كان ما كان، إذ رأت السعودية للمرة الأولى منذ زمن طويل أن لا قدرة لها بعد اليوم على فرض سياستها بأي شكل من أشكال الدبلوماسية أو الضغط، فآثرت فشّ خلقها بالحريري»، فيما لم تكن «لتحظى بشرف المواجهة مع أيّ رئيس آخر، فالواقع أن غالبية السابقين قدّموا فروض الطاعة لها منذ ما قبل تنصيبهم». والواقع أيضاً أن أحداً ما كان ليتجرّأ بالتلويح للرياض بورقة مجلس الأمن إلا ميشال عون، حيث كانت الشكوى (أو إرسال رسالة من رئيس الجمهورية إلى مجلس الامن) ستشكل سابقة دولية لم تحصل أبداً، بادّعاء دولة على دولة أخرى بتهمة احتجاز رئيس وزرائها.
بعدها انتقل رئيس الجمهورية الى تحديد المحاور وتوزيع المهمات بناءً على الأعمدة التي أرساها داخلياً ودولياً. البداية كانت بتعميم على نواب التيار الوطني الحر ووزرائه بعدم إجراء أي مقابلة من دون إذن مسبق، للحدّ من الهفوات. وكان الالتزام كاملاً. ثم انتقل للعب على 4 محاور: أوّلها دستوري برفض الاستقالة من خارج لبنان رغم كل التهويل بالحروب وانخفاض سعر الليرة. وهنا أطلق عون شعار «أولوية عودة الحريري الى لبنان» الذي تبنّته كتلة المستقبل لاحقاً. ثانيها أمني حيث عقد اجتماعات بالقادة الأمنيين، وأبقى التواصل مباشراً معهم، طالباً تقارير أمنية حول وضع الجنوب اللبناني والتأكد من أن الوضع آمن هناك، ليتصل بعدها بمدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان سائلاً إياه عن صحة معلومة محاول اغتيال الحريري. وعندما نفى عثمان الأمر، طلب منه إصدار نفي رسمي، وهو ما حصل فعلياً. ثالثها اقتصادي ــــ مالي لمعرفته المسبقة أن الخرق والتهديد الفعلي يحصلان إما عبر الأمن أو الاقتصاد. رابعها دبلوماسي ـــــ دولي تمثل باتصاله بكل رؤساء الدول لملاقاته في منتصف الطريق. هكذا خلق عون «بقجة» كبيرة حملها باسيل في جولاته ودعمها، واستخدمها الرئيس الفرنسي كورقة قوة للحصول على موقف أوروبي موحّد وضمان خروج لائق للحريري من السعودية. ولكن كل ذلك لم يكن ممكناً لولا شبكة الأمان المستقبلية التي أرساها الرئيس بواسطة النائبة بهية الحريري ومدير مكتب الحريري، نادر الحريري، ووزير الثقافة غطاس خوري، وأيضاً لولا تنسيق عون وباسيل مع حزب الله، أكان مباشرة مع السيد حسن نصرالله أو عبر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد ومسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا، لقطع الطريق أمام الفتنة الداخلية وإرساء هدوء نسبي في الخطاب المعتمد.
الرئيس، لا الكرسي، هو الذي يصنع الفرق على ما أثبته ميشال عون. فبعد ثبوت صوابية رؤيته وحسن إدارته للأزمة الكبيرة التي كانت تستهدف «العهد» ونجاحه في استعادة رئيس حكومته والتسوية معاً، سيعمل في المرحلة المقبلة «على تثبيت استقلال لبنان عبر تثبيت الوضع الداخلي». وفعلياً، يحتاج ذلك الى «استكمال المشاورات الدولية والاقليمية لوضع خارطة طريقة حكومية آمنة والبحث في الثغَر التي أدت الى هذه الاشكالية لتحصين وضع الحكومة وموقف رئيسها». لكن عون مرتاح، بحسب ما ينقله زوار القصر، وغالباً ما يحرص على رفع معنويات نوابه وبعض المقرّبين منه الذين تعتريهم نظرة تشاؤمية. فالرئيس واثق من أن الظروف الحالية ليست سوى نكسة صغيرة مقارنة بالأزمات التي واجهها سابقاً واستطاع التغلب عليها.
«الردح» السعودي مستمر: عون تقاضى رشوة من قطر!
لم تتعظ السعودية مما وقعت فيه نتيجة شرّ أعمالها، ولا ردعتها الخسارة التي مُنيت بها في لبنان نتيجة عودة رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته ونجاح رئيس الجمهورية بتثبيت استقلالية موقفه رادعاً إياها من تحقيق حلمها بالوصاية على لبنان.
ولأنها المرة الأولى التي يقف فيها رئيس جمهورية لبنان بشكل علني ورسمي ضد مطالب المملكة ورُشاها ومحاولاتها البائسة لتركيع لبنان واللبنانيين من باب احتجاز رئيس حكومتهم ومحاولة زرع الفتنة في بلدهم، وصل الجنون السعودي إلى حدّ اتهام الرئيس عون بتقاضي «رشوة بقيمة 20 مليون دولار لمناهضة السعودية». المملكة لا تجيد شيئاً أكثر من إجادتها دفع الرشى لشراء الذمم، لصعوبة أن يبايعها أحد اقتناعاً. ولأن عقلها السياسي لا يدرك معنى الكرامة والقرار الحر، فإنها تظن أن لكل شخص وسماً يحدد سعره. وفي موقف يعبّر عما سبق، وعن حالة الجنون السعودي المتواصل نتيجة فشل مخططها وخساراتها المتتالية، كتبت صحيفة «الوطن» السعودية مقالاً في رأس صفتحها الأولى، تحت عنوان: «قطر ترشو عون 75 مليون ريال (أي 20 مليون دولار) لمناهضة السعودية». المقال المعبّر عن رأي النظام السعودي بمن لا يمكن شراؤه ينقل عن «مصدر رفيع» حديثه عن قيام قطر بـ«تقديم رشوة للرئيس اللبناني ميشال عون، مقدارها 75.2 مليون ريال، أي 20 مليون دولار، في إطار صفقة تتضمن توافق توجهات عون مع سياسات قطر الداعمة لحزب الله، والمناهضة للسياسة الخارجية السعودية»، لتتبعها بتعداد أهداف الرشوة: «كسب ولاء الرئيس اللبناني، إشعال الداخل السني في لبنان، تمويل وتسليح حزب الله، تنفيذ أجندة إيران في المنطقة». أما المضحك في ما هو مكتوب، فهو ذكره كيفية تسلم الرئيس عون «للرشوة»، إذ إن «المبلغ المالي القطري وصل قبل أسبوعين إلى الرئيس عبر مندوب قطري وقام بإيصال الحقيبة التي تحوي المبالغ إلى القصر الجمهوري وتم تسليمها لعون مناولة». وأضاف المصدر أنه «بعد وصول هذا المبلغ حرّض عون مباشرة على الطائفة السنية والشارع اللبناني ضد السعودية، متهماً إياها بأنها تعتقل الرئيس الحريري وأنه رهن الإقامة الجبرية». وفات البلاط السعودي هنا أن مصر كما فرنسا وأميركا وألمانيا وغالبية الدول الأوروبية قد أكدت واقعة الاحتجاز، وكان الأجدى بمدّاحيها أن يخجلوا وينكفئوا ريثما أقله يتم تناسي هذه الفعلة الشائنة في القرن الواحد والعشرين. لكن الوقاحة السعودية وصلت إلى حدّ تحويل هزيمتها الكبيرة نتيجة وقوف الرئيس عون في وجه محاولتها مصادرة القرار اللبناني وإخضاعه لأهوائها، إلى حفلة ردح وإهانات للبنانيين ورئيسهم عبر وسائلها الإعلامية إن صحّت تسميتها بذلك. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يثير فيها عون غيظ السعودية نتيجة رفضه الانصياع لأوامرها السياسية، فقد سبق لصحيفة «عكاظ» السعودية أن وصفته بـ«السفّاح» و«متعدد المرجعيات الذي لطالما نقل بندقيته من كتف إلى آخر». وبالتأكيد لن يكون هذا المقال خاتمة الجنون السعودي، ولا سيما مع عودة الاستقرار إلى لبنان كما كان ما قبل اختطاف الرياض للرئيس الحريري ومع الهزائم المتتالية التي يُمنى بها الإرهابيون الذين تصدِّرهم المملكة الوهابية إلى الدول العربية والأوروبية.