إكتشف العماد ميشال عون، ولو متأخّراً، أنه لن يصل إلى رئاسة الجمهورية لأنّ أحداً من ذوي النفوذ القادرين على إيصاله لا يريده في بعبدا. لكنّ مشكلة عون تكمن في أنه لا يستطيع الاعتراف بذلك، ويفضل الاستمرار بالمحاولة.
في العام 1989، حاول عون أن يقول: ربما تكونون أقوى مني، لكنني أمتلك سلاح «الخربطة». أنتم تستطيعون عقد التسويات في غيابي وعلى حسابي. لكنني قادرٌ على التعطيل، ولا يمكنكم تنفيذ التسويات من دوني.
وبعد العام 2006، اعتقد عون أنّ ارتكازه على القوى التي كان يحاربها منذ 1989 سيقوده إلى الانتصار. لكنه فوجئ باستمرار العقدة. وهو اليوم، في 2016، يستمرّ في المحاولة، لكنه أدرك أخيراً، كما كلّ الأطراف في لبنان، أنّ له حدوداً لا يستطيع تجاوزها.
يعرف عون- كما الجميع- أنّ هناك حدوداً للتعطيل مسموحٌ بها في لبنان:
1- ممنوع اهتزاز الأمن. وفي أيّ حال، لا يمكن للشارع العوني أن يهزّ الأمن لأنه ليس مرشحاً للاصطدام لا بشارع آخر ولا بالسلطة، أي الجيش وقوى الأمن. وكذلك، هو لن يعطّل الحياة في المناطق التي سيشملها لئلّا تنقلب مفاعيله على أصحابها.
2- ممنوع إسقاط الحكومة لأنّها الترجمة الواقعية للسلطة التنفيذية، في غياب رئيس الجمهورية. والرسائل الدولية في هذا المجال، سواءٌ لعون وسائر القوى السياسية أو للحكومة ورئيسها واضحة. وتوقيت لقاء الخميس الفائت في السراي واضح.
3- ممنوع تعطيل جلسات التشريع في المجلس النيابي، إذا كانت تحمل تغطية دولية، كتلك المتعلقة بالاستقرار المالي، كالجلسات التي جرى فرضها في نهاية العام الفائت لتمرير التشريعات المتعلقة بغسل الأموال والشفافية والتهرّب الضرائبي والتزوير.
في اختصار، يُراد من لبنان في هذه المرحلة أن يبقى صامداً ككيان، تحت سلطة مركزية ولو صُوَرية. ولذلك، ممنوع اهتزاز استقراره الأمني (الجيش والمؤسسات الأمنية) أو المالي (مصرف لبنان والقطاع المصرفي).
وهذا الاستقرار ضرورة لتمكين لبنان من الاضطلاع بدوره المطلوب حتى ترتسم ملامح التسويات في الشرق الأوسط، ولاسيما في الملفَين السوري والفلسطيني. واليوم، بات استقرار لبنان الأمني والمالي ضرورياً ليبقى جاذباً للنازحين السوريين، فلا يغادرونه إلى أوروبا.
ويزداد الأمر وضوحاً مع بدء الأوروبيين تنفيذ الخطط الآيلة إلى توزيع اللاجئين على بلدان أخرى. وسيكون لبنان أوّل المرشحين لاستقبالهم، لأنّ الأمم المتحدة والقوى الدولية النافذة تمنع عودتهم الجزئية إلى مناطق آمنة في سوريا، تحت عنوان أن لا مناطق يمكن الاطمئنان إليها هناك.
وهذا الإصرار الدولي على منع سقوط لبنان يقابله التراخي، بل التواطؤ أحياناً، في التعاطي مع الاستحقاقات الداخلية كالانتخابات الرئاسية أو النيابية.
وإذ أصرّت القوى الدولية على إجراء الانتخابات البلدية في مطلع الصيف الفائت، فإنّ إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية يبقى قيد المناقشة.
وعندما يطلق عون برنامجه التصعيدي، الذي يبدأ بتحريك الشارع في 28 أيلول و13 تشرين الأول، فهو يعرف مسبقاً أنّ هناك حدوداً لهذا التصعيد. لكنه بات يفتقد أيّ وسيلة أخرى ليقول: أنا موجود وما زلت أمتلك الأوراق التي أستطيع استخدامها!
وفي المقابل، يبدو أنّ من مصلحة معظم القوى السياسية- في محورَي الخصوم والحلفاء- أن تمنع عون من تنفيذ برنامجه التصعيدي. وربما تنسّق هذه القوى في ما بينها، من تحت الطاولة، لـ»تنفيس» احتقان عون كلما قارب درجة الانفجار، عن طريق الإيحاء بأنّ هناك حلحلة تطرأ على الملف الرئاسي.
وفي ضوء ذلك، يطرح البعض سؤالاً عن الجهة التي أطلقت الموجة الأخيرة من التفاؤل بانتخاب عون رئيساً للجمهورية، وما كان هدفها، خصوصاً أنها تزامنت مع الاتصال الأخير بين باسيل والحريري في باريس؟
وإذا أدرك عون مَن هي هذه الجهة، فإنه سيكون قادراً على إدراك مكامن الخلل، ليس فقط في معركته الرئاسية، بل أيضاً في مجمل حركته السياسية، وسيكون قادراً على القيام بمواجهة أكثر واقعية.
يعتقد البعض أنّ التسريب التفاؤلي في ملف الرئاسة كان مقصوداً، وأنّ الذين يقفون وراءه، في شكل منسَّق أو غير منسَّق، هم من حلفاء عون وخصومه على حدٍّ سواء.
لقد ذهب عون بعيداً في تصعيده الأخير. فهو أزعج البعض بالمنحى الميثاقي الذي طرحه الوزير جبران باسيل، والذي بدا حاداً ويحمل منحىً فدرالياً واضحاً. كما أنزعج هؤلاء من المنحى التصعيدي في تعطيل الحوار ثمّ جلسات مجلس الوزراء ما هدَّد مصير الحكومة وأحرج حليفه «حزب الله» ودفعه قسراً، ومن دون رغبة منه، إلى التضامن معه وتعطيل الجلسة الأخيرة.
إنّ التصعيد المبرمَج الذي ينفّذه عون هو محاولة لخرق المساومة الشيعية- السنّية المستمرة، التي بها يُدار البلد منذ خروج القوات السورية في العام 2005. ولأنّ الطرفين المذهبيَّين يجدان أنّ هذه المساومة ضرورية لإدارة الصراع الدائر بينهما، فإنهما يرفضان أن يقوم طرف سياسي مسيحي بتعطيلها، ويقومان بمواجهته، بالتنسيق المباشر وغير المباشر بينهما.
ولا يستطيع «حزب الله» أن يواجه عون بحقيقة موقفه خوفاً من عواقبها على التحالف القائم بينهما، والذي يعتبره «الحزب» حيوياً له. فلو أراد «حزب الله» إبلاغ عون بأنّ القوى الشيعية والسنّية بمجملها لا تريده رئيساً للجمهورية لانفجرت الأزمة في داخل التحالف واختلطت الأوراق.
لذلك، يجد «الحزب» مصلحة في إطلاق التطمينات لعون، وفي تهدئة غضبه والحدّ من مطالبته المُلحّة لـ»الحزب» كي يتّخذ «قراراً تنفيذياً» بانتخابه. لكنّ هذا النهج لم يعد كثير الفاعلية في الرابية التي باتت على اقتناع راسخ بأنّ «الحزب» ليس متحمّساً لانتخاب عون، على رغم كلّ التأكيدات. فلو كان «الحزب» يعتبر ذلك هدفاً حتمياً وأولوية سياسية له، لكان حقّق هذا الهدف قبل فترة طويلة، والبعض يقول، لما كان وقع الفراغ الرئاسي أساساً.
إذاً، لا شيء يوحي بأنّ هناك تبديلاً طرأ على المعادلة التي خلقت الفراغ الرئاسي. وفي عبارة أخرى، ليس في الأفق ما يوحي بأنّ «الحزب» يريد في المطلق إنجاز انتخابات رئاسية، وبأنه يريد انتخاب عون. والجميع بات يدرك ذلك.
لقد كان لافتاً النفي السريع للكلام المنسوب إلى أوساط قريبة من الرئيس سعد الحريري عن احتمال مبادرة تيار «المستقبل» إلى ترشيح عون. وقد تبيّن أنّ هذا التسريب ليس سوى بالونَ اختبار.
وأظهرت الموجة الجديدة من «التفاؤل» أنّ أحداً لا يتعب من تكرار التجارب في لبنان، وأنّ عمق الأزمة التي يعيشها العماد عون يكمن في استعداده الدائم لتلقي الوعود الجديدة بانتخابه رئيساً للجمهورية، لعلّ واحداً منها يكون صادقاً… مع إدراكه صعوبة هذا الأمر.
والمثير أنّ الرابية ما زالت تراهن، للمرة الألف، على أنّ لقاءً يعقد في باريس بين الحريري وباسيل أو أيّ اتصال آخر بين الطرفين قد يؤدي إلى تحقيق المعجزة… علماً أنّ التجارب السابقة كلّها على مستويات أرفع باءت بالفشل.
ويسأل البعض: إذا وافق الحريري على عون، فمَن سيُقنع الرئيس نبيه بري بتأييده؟ والبعض يسأل: … ومَن سيُقنع «حزب الله» عندئذٍ؟
يدور ملف رئاسة الجمهورية في الدوّامة، بلا هوادة. وفيها تتكرّر الوقائع والتوقعات. وقَدَرُ عون هو أن يقبل بتكرار المحاولة بعد حين. إنه يشبه سائق الدراجة الهوائية الذي إذا ما توقّف عن «التدويس» يفقد التوازن ويسقط!