في نهاية حقبة الثمانينات إختار العماد ميشال عون الذي كان قائداً للجيش اللبناني ورئيساً للحكومة الإنتقالية التي شكّلها الرئيس الأسبق الشيخ أمين الجميّل تجنّباً للشغور الرئاسي سنة 1988، المُواجهة مع الجميع على الدخول في التسويات المُعلّبة، فاختلف مع الإدارة الأميركية التي كانت تُروّج لحلّ سياسي للبنان بالإتفاق مع القوّتين الإقليميّتين سوريا والسعودية، وتحالف مع الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين الذي كان منبوذاً من العالمين العربي والغربي، لتأمين السلاح لمواجهة جيش الوصاية السورية في لبنان، وإختلف مع النوّاب اللبنانيّين بشأن «إتفاف الطائف» وحاول تجريدهم من نيابتهم، وتدهورت علاقته مع كل من البطريرك الماروني آنذاك مار نصر الله بطرس صفير ومع العديد من القيادات السياسيّة والإقتصاديّة التي لم تؤازره في سياسته وحروبه، وإصطدم عسكرياً مع ميليشيا «القوات اللبنانيّة» في حينه، بسبب إختلاف النظرة بشأن سُبل التعاطي مع «إتفاق الطائف» ومع التطوّرات في المنطقة، وإختلف مع رئيس حكومة «أمر الواقع» المُقابلة سليم الحصّ، ومع الفريق السياسي الذي كان يقف خلف هذا الأخير. واليوم، يبدو أنّ رئيس «تكتّل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون يُكرّر «السيناريو» نفسه الذي قام به قبل ربع قرن، ولوّ مع إختلاف الظروف والمُعطيات!
وفي هذا السياق، أكّدت أوساط سياسيّة قريبة من 14 آذار أنّ ما يجري في المنطقة حالياً بالغ الأهميّة حيث أنّنا دخلنا عمليّاً مرحلة ما بعد الإتفاق النووي الإيراني مع الغرب، ما يعني أنّ ملفّات المنطقة العالقة ستُفتح تباعاً في محاولة لإيجاد حلول وتسويات تُناسب المرحلة. وأضافت أنّ ما نشهده من معارك مُهمّة وإستراتيجيّة بشكل مُواز لأولى جولات التفاوض هنا أو هناك، من معارك الزبداني، مروراً بالتدخّل العسكري التركي في سوريا، وصولاً إلى التحوّلات الميدانيّة في اليمن، إلخ. ما هي إلا محاولات حثيثة لكسب المزيد من الأوراق لتعزيز القُدرات التفاوضيّة عند حلول زمن التسويات في هذه الملفّات.
ولفتت الأوساط السياسيّة نفسها إلى أنّ «حزب الله» الذي يخوض معارك شرسة في سوريا، وعلى الحدود اللبنانيّة ـ السورية، والذي يُتابع التطوّرات الإقليميّة عن كثب، يُدرك أنّ المرحلة الحالية هي مرحلة تعزيز المواقع في إنتظار التسويات، لذلك يحرص على عدم قلب شبه الإستقرار القائم على الساحة اللبنانيّة الداخليّة. وأضافت أنّ مُختلف القوى السياسيّة اللبنانيّة الأخرى تُدرك أنّ الزمن الحالي هو زمن «تقطيع الوقت» وزمن إنتظار التسويات الإقليميّة الموضوعة على النار، الأمر الذي يُفسّر حال الجمود التي تُسيطر على الحركة السياسيّة الداخليّة، في ظلّ رهانات مُتضاربة وآمال متناقضة للأفرقاء المُتصارعين.
وتابعت الأوساط السياسيّة المُطلعة أنّ العماد عون هو الوحيد الذي يخرج عن هذا الإجماع، ويُحاول فرض مُعادلات داخليّة بمعزل عن التطوّرات في المنطقة وعن كامل الحركة السياسيّة والعسكريّة الإقليميّة، في تكرار لما حاول القيام به في «حرب التحرير» في نهاية الثمانينات. ورأت أنّه باستثناء «حزب الله» الذي يحرص على مُساندة «الجنرال»، أقلّه إعلامياً ومعنويّاً، لا يبدو أنّ كُثراً يقفون إلى جانب العماد عون، لا من صفوف الحلفاء ولا من صفوف الخصوم بطبيعة الحال! وأوضحت الأوساط نفسها أنّ علاقة «التيّار الوطني الحُرّ» مع «تيّار المُستقبل» هي في أسوأ مراحلها، وعلاقته مع «القوات اللبنانيّة» هي بالشكل جيّدة لكن من دون أيّ تغيير عن الماضي على مستوى المضمون وبالنسبة إلى خلافات التموضع الإستراتيجي. وأضافت أنّ علاقته مع حزب «الكتائب اللبنانيّة» أقلّ من عاديّة، ومع الشخصيّات المسيحيّة المُستقلّة شبه غائبة، ومع الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال سليمان سيّئة، ومع النائب وليد جنبلاط غير صُحّية، ومع قائد الجيش العماد جان قهوجي غير سَويّة ومُرشّحة للتوتّر أكثر.
ولفتت الأوساط السياسيّة نفسها إلى أنّ المُفارقة أنّ علاقة العماد عون ليست جيّدة أيضاً، حتى مع من يُفترض أن يكونوا ضمن صفوف الحلفاء، اذ أنّ الإشتباك مع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي صار يتمّ بشكل دوريّ والعلاقات الثنائية باتت تحتاج إلى وساطات صُلح بشكل دائم، والبرودة مع «تيّار المردة» واضحة، علماً أنّ الدعم لمطالب «الجنرال» من باقي أفرقاء قوى «8 آذار» ? باستثناء «الحزب»، خجول وإعلامي أكثر منه ميداني فعلي.
وشدّدت الأوساط السياسيّة المُطلعة على أنّ العماد عون ينجرف شيئاً فشيئاً نحو تكرار الخطأ الذي إرتكبه قبل 25 سنة، عندما واجه الجميع وظنّ أنّ بإستطاعته تغيير المُعادلات وفرض التسويات، لتأتي الأحداث لتُثبت أنّ عاصفة التسويات الإقليميّة ـ الدوليّة قادرة على كسر كلّ من يقف في طريقها، لأنّها تُبنى على توازنات دقيقة جداً لا يُسمح للاعبين الصغار على مستوى الحجم الإقليمي والدولي العام بتغييرها. وأكّدت الأوساط نفسها أنّ مسائل إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتعيين قائد جديد للجيش اللبناني، وتشكيل حكومة جديدة، أو حتى تنظيم إنتخابات نيابية تُعيد تشكيل السلطة السياسيّة، لم تعد بيد الشخصيّات السياسيّة اللبنانيّة حالياً، على الرغم ممّا يتمّ ترويجه عن مساع داخليّة لحلّ قريب من باب تخفيف الإحتقان لا أكثر، بل مُرتبطة مُباشرة باتفاقات وتسويات شاملة يجري إعدادها على مستوى كامل المنطقة وستستغرق وقتاً طويلاً.
وختمت الأوساط السياسية المُطلعة بالقول إنّه بإمكان العماد عون التمسّك بنظريّة «يستطيع العالم أن يسحقني لكنّه لا يستطيع أن يحصل على توقيعي» لكنّه سيخرج في نهاية المطاف فارغ اليدين في حال أصرّ على مُواجهة التغييرات الكبرى الحاصلة في المنطقة حالياً، ورفض الإنسياق مع «التيّار» الذي بدأ يرسم خريطة التسويات في المنطقة. وبداية الخسائر ستكون مع مرور التمديد لرئيس الأركان اللواء وليد سلمان، تمهيداً لتمديد فترة خدمة قائد الجيش العماد جان قهوجي قريباً، وذلك بعكس إرادة «الجنرال» ورغبته .