أحرقت الانتخابات البلدية فزاعة ثنائية التيار الوطني الحر ــ القوات اللبنانية، وخلخلت الحقل الذي ترتفع فيه. من زحلة إلى القبيات، مروراً بغالبية القرى والبلدات التي شهدت اصطفافات سياسية، لا يكاد يمثل العونيون والقوات معاً 50 في المئة من المقترعين المسيحيين، فيما يعيش الحزبان في عالم بعيد عن عالم محازبيهما والرأي العام في مناطق نفوذهما
في زحلة بلغ عدد المقترعين 25 ألفاً، حصل رئيس لائحة الكتلة الشعبية يوسف سكاف على 9278 صوتاً منهم، فيما حصل موسى فتوش على 7364 صوتاً، في مقابل حصول لائحة القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر على 10922 صوتاً، أي ما يوازي 44% من المقترعين.
بناءً عليه، وفي ظل التلويح الدائم للأحزاب بنسب التمثيل التي نسبوا إلى أحد الإحصائيين قوله، غداة تفاهم معراب، إنها تتجاوز 80%، يفيد التذكير دائماً بأن صناديق الاقتراع بيّنت تمثيلهم 44 في المئة فقط من المقترعين في مدينة زحلة رغم فوزهم، فيما عرّتهم الأشرفية، وتبيّن أن قوة العونيين والقوات معاً في جزين اليوم لم تعد توازي قوة التيار وحده قبل ست سنوات. وقد حصل العونيون والقوات على فتات تمثيليّ، لا يصل إلى 25% من أعضاء المجلس البلدي في قرى المتن الشمالي الرئيسية، وخسروا غالبية المعارك التي خاضوها، وهربوا من المعركة في مدينة جبيل، وطوّبوا زغرتا محمية سياسية للنائب سليمان فرنجية لا يسعهم الاقتراب منها، وخسروا، مجتمعين أو كلاً على حدة، أمام كل من النائب المرديّ السابق كريم الراسي في الشيخطابا، والنائب المستقبلي السابق عبدالله حنا في رحبة، والوزير بطرس حرب في تنورين، والنائب فريد مكاري في أنفة، والنائب هادي حبيش في القبيات، على نحو يحول دون تمكنهم من القول اليوم إن ثمة نائباً مستقبلياً واحداً لا يتمتع بالحيثية الشعبية في بلدته. حتى النائب رياض رحال الذي كان يعجز عن الفوز بمختار في بلدته سابقاً باعتبارها حصناً عونياً، خرج منتصراً هذه المرة.
ولا شك في أن السؤال الذي يطرح اليوم يتعلق بنسبة تمثيل كل من العونيين والقوات على حدة، ما دامت نسبة تمثيلهما مجتمعين لم تتجاوز 50% في غالبية القرى والبلدات. ولا شك في أن القوات ستنكبّ الآن على دراسة كيف أمكن تيار المستقبل الذي «تبهدل» في طرابلس أن يربح، عبر حليفيه، في تنورين والقبيات، لاتخاذ الخطوات الاستدراكية المناسبة، فيما سيصدّق بعض التيار الوطني الحر «خبريات» عن انتصار ساحق آخر، بدل اتخاذ الخطوات العلاجية المطلوبة، علماً بأن عكار التي خسرت لوائح التيار الرسمية في معاقله الشعبية فيها هي اختصاص المنسق العام السابق للتيار بيار رفول، وهو تدخل شخصياً في كل القرى التي خسرها التيار وعقد الاجتماعات المطولة، وأصرّ على أن يعلن بنفسه اللوائح المدعومة من التيار، مبلغاً كعادته كل من يخالفه الرأي أن بوسعه الاستقالة أو يحوّله إلى محكمته الحزبية.
القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات تبيّن مجموعة أمور:
أولاً، تفاهم معراب لا يلقى صدى شعبيّاً سلبيّاً، لكنه لا يلقى في المقابل صدى إيجابياً. المحازبون متحمّسون له، لكن الرأي العام، كما بيّنت المهرجانات الانتخابية وصناديق الاقتراع، غير مبال أبداً باجتماع سمير جعجع وميشال عون أو اختلافهما. وكان يتوقع أن يجتذب هذا التفاهم فعاليات كثيرة من جهة، وكل الرأي العام غير الحزبي من جهة أخرى، فلا يبقى للقوى الأخرى غير محازبيها والمنتفعين مباشرة منها، إلا أن النتائج بيّنت أن لا تعبئة شعبية ولا تسونامي عونيّاً ــ قواتيّاً أو أيّ شيء من هذا كله.
ثانياً، من زحلة إلى جونية ودير القمر فأنفة أخيراً، ثبت أن التيار يلتزم بهذا التفاهم ويتحمس لمعارك القوات، فيما القوات لا تبادله الحماسة لمعاركه؛ فإما تدخل في ائتلاف لا يشمله أو تخوض المعركة إلى جانب حلفائه. فحيث المعركة معركة قوات وقف التيار إلى جانبها خلافاً لمصلحته (زحلة مثلاً)، أما حيث المعركة معركة عون فقد وقفت القوات ضده بحكم مصلحتها (جونية مثلاً).
اتفق العونيون والقوات واختلفوا بناءًعلى مصالح شخصية لا على مشروع مشترك
ثالثاً، خاض العونيون والقوات الانتخابات من دون مشروع أو أي معايير واضحة. فحزب الله وحركة أمل، مثلاً، أطلقا اسماً واحداً على جميع لوائحهما، وخاضا الانتخابات جنباً إلى جنب في جميع القرى، تاركين لناخبيهما حرية الاقتراع في بضع قرى فقط. أما العونيون والقوات فاتفقا في قرية واختلفا في أخرى، وكان اتفاقهما واختلافهما بناءً على مصالح شخصية لا على مشروع مشترك. يتحالفان مع البيوتات السياسية في قرية ويحرّضان عليها في قرية مجاورة؛ مرة يتحالفان مع أقطاب الخدمات ومرة يصبحون ورماً خبيثاً يجب استئصاله؛ يتحالفان مع المال الانتخابي في قرية وينتدبان نفسيهما لتخليص الناخبين من براثنه في أخرى تجاورها. كأن الناخب في القرية الفلانية لا يرى ما يفعلانه في قرية أخرى. يعتبر التيار نفسه أكبر من المحاسبة، لكنه يواجه عملياً أزمة ثقة به استثنائية:
لا يمكنه التحالف مع تيار المستقبل في بيروت، ودفع أهالي القبيات إلى «إراقة ماء وجوههم» مع نائب بلدتهم هادي حبيش لمجرد أنه عضو في كتلة المستقبل. لو كان التيار والقوات صاحبَي مشروع مبدئي لطحن المقترعون حبيش، لكن لماذا ينتخب القبيّاتي ضد حبيش وهو يعلم أن من زار النائب خالد ضاهر قبل بضعة أسابيع يمكن أن يزور حبيش غداً أو بعده. ولعل التيار والقوات يتبنيان ترشيح «هادي» في الدورة المقبلة في حال غيّر رأيه في شأن الاستحقاق الرئاسي، فـ»تطلع برأس» ابن القبيّات. وفي السياق نفسه، لا يمكن أن يكون رئيس بلدية القبيات عبدو عبدو «شيخ الأوادم» حين كان مرشح التيار في انتخابات 2013 الفرعية، ويصبح اليوم «المليونير الذي يشتري الأصوات» حين لم يعد مرشح التيار. ثمة عقل في رأس الناخب لا يجوز الاستخفاف به أكثر، علماً بأن ما كان كثيرون يتخوفون منه كان يمكن تلمّسه في القبيّات هذه المرة، حيث لم يعد لدى التيار الوطني الحر خطاب سياسي يعوّل عليه: كيف ينتقد بلدية أو سلطة وهو يشارك فيها؟ كيف ينتقد تيار المستقبل هنا ويتحالف معه هناك؟ كيف يحرّض على علاقة حبيش بخالد ضاهر وهو يزور ضاهر في منزله؟ حتى قصة دبكة النائب السابق فوزي حبيش في أفراح الاستخبارات السورية لم يعد بوسعه اللعب عليها بحكم جلوس من كانوا يمسكون يد حبيش في الدبكة نفسها في صفوف التيار الأمامية.
رابعاً، حال العونيين والقوات من حال المستقبل وسائر أفرقاء السلطة لناحية عدم الشعور بتاتاً بالاحتقان الشعبي المحيط بهم والرغبة العارمة في التغيير. فهم دخلوا في صفقات تحاصصية مع رؤساء المجالس البلدية المفعمين بالفساد، وبدأوا التباكي من عدم امتلاكهم مرشحين نافذين في عائلاتهم يملكون الثروات اللازمة برأيهم لخوض الانتخابات، فيما بيّنت صناديق الاقتراع أن شاباً متحمساً يترشح على المخترة من دون ماكينة يحصد ربع الأصوات في منطقة الرميل في بيروت، وشاباً آخر يحصد منفرداً من دون ماكينة ومن دون حزب ثلث الأصوات في جل الديب، فيما قدم سيلفيو شيحا ــــ بعد بيروت مدينتي ــــ درساً وافياً في جونية عن رغبة الناخبين في شباب تغييريين من دون مبالاة بمشروعهم السياسي. إلا أن العونيين والقوات لم يبالوا بهذه الدروس، وواصلوا البحث عن مقاول مسن أو ثري «ابن عائلة» يصطفون خلفه.
أخيراً، بيّنت هذه الانتخابات أن الالتزام الحزبي العونيّ في غاية الهشاشة. فحيث كان قرار قيادة الحزب يتناغم مع رغبة القاعدة التزم العونيون. أما حيث صدر قرار فوقيّ يلزمهم بموقف لا يقتنعون به فلم يلتزموا أبداً. ولم تكن أشرفية زياد عبس في هذا السياق سوى كرة ثلج صغيرة كبرت كثيراً حتى بات على المحكمة الحزبية أن تستدعي أكثر من نصف المنتسبين إلى التيار في حال قررت المضيّ جدياً بمحاكمة غير الملتزمين، علماً بأن التحدي الرئيسي بالنسبة إلى هذه القيادة يفترض أن يكون مصالحة هؤلاء في المرحلة المقبلة والاعتراف بخطئها تجاههم، ووصل ما انقطع بينها وبين العونيين غير الملتزمين أيضاً بحكم قراراتها المتسرعة لا تأزيم الأمور أكثر. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن العلاقة الودية المستجدة مع القوات سهّلت فتح منسّقي القوات خطوط اتصال ذكية بالغاضبين الذين يفترض أن تعرف قيادة التيار قيمتهم وتستوعبهم بدل المغالاة في استفزازهم وإهانتهم، في ظل خسارتها هنا وهناك بفارق بضعة أصوات فقط. ما كان التيار، ممثلاً برئيس اتحاد بلديات جزين خليل حرفوش، ليتلقى صفعة في تلك المنطقة الجنوبية لو تم استيعاب مناضل بذل الكثير في سبيل التيار اسمه باتريك رزق الله، وما كان التيار ليخسر في القبيّات أمام هادي حبيش لو تم استيعاب عميد بذل أغلى ما لديه في سبيل العماد عون اسمه جورج نادر. كل المطلوب قليل من التواضع.