يلتقي فريقا الحوارين، السني ــ الشيعي والماروني ــ الماروني، على عنوان عريض واحد معلن، هو تبديد الاحتقانين المذهبي والسياسي في معسكر كل منهما. بعدما أقبل تيار المستقبل وحزب الله على التواصل المباشر بإيجابية غير متوقعة، كأنهما ليسا على طرفي نقيض أو أن ليس ثمة ما يفرّق بينهما على وفرته، يتصرّف طرفا الحوار الماروني ــ الماروني كما لو أنهما يلقيان وراء الظهر كل ما حدث بينهما منذ عام 1988، وليس فحسب منذ عام 2006 عندما افترق الرئيس ميشال عون عن قوى 14 آذار. على مرّ السنين تلك، لم يكفّا يوماً عن نبش القبور وإخراج الاموات منها. كذلك ما بات عليه في السنوات الاخيرة الطرفان السني والشيعي، فأضحت بينهما منذ عام 2005 قبور مفتوحة وأموات لم يدفنوا بعد.
تحضّر الافرقاء الاربعة لطاولة حوار تتوخى تخفيف التشنجين السياسي والاعلامي المتبادل وأسهبوا، اثنين تلو اثنين، في إبراز ضرورة التحاور بلا شروط، وإعادة وصل ما انقطع. بيد أن حسن النيات المعلن لا يلبث أن يتوقف عند ملف رئاسة الجمهورية. وهو ما يفصحون عن أنهم في صدد الخوض فيه في مرحلة لاحقة، ما إن يطمئنوا الى تبريد الشارع. لكن واقع الحال مغاير تماماً: لا يسع تيار المستقبل وحزب الله وحدهما بتّ الاستحقاق وطريقة إخراجه وموعده، ولا عون وجعجع الاتفاق على اسم الرئيس المقبل.
وقد لا يكون من السهولة بمكان توقع اتفاق الافرقاء الاربعة، اثنين بعد اثنين، على استحقاق وصفه سفير دولة كبرى بأنه مشكلة المشكلات. قال في مجلس خاص: أزمة انتخابات الرئاسة في لبنان ليست في المرشحين، وما أكثرهم، بل في الفيتوات الكبرى على المرشحين المهمين. كل مرشح مهم ثمة فيتو في وجهه يمنع انتخابه.
الواقع أن المتحاورين الاربعة هم أصحاب الفيتوات الكبرى. يضع تيار المستقبل فيتو على عون الذي يضع بدوره فيتو على أي مرشح سواه، ويضع حزب الله فيتو على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي يطالب بمرشح ثالث في معرض وضع فيتو على أي مرشح من قوى 8 آذار بمن فيهم عون. في المقابل، يُنسب الى السفير نفسه قوله، وهو يحاول تصوير المخرج الملائم للخروج من الشغور: الاستحقاق الرئاسي باب من دفتين إحداهما اسمها ميشال عون والاخرى سمير جعجع. ما لم تفتحا معاً تماماً في وقت واحد، لن نبصر أبداً مَن يقف وراء هذا الباب.
منذ نيسان الفائت، يخوض جعجع معركة ترشحه بين حدين: أقصى هو توقع ما لا يمكن توقعه مع تطورات إقليمية مفاجئة تحملة الى الرئاسة الاولى، وأدنى يقضي بخروجه وعون من السباق والتوافق على مرشح ثالث، بعد أن يكون قد أضحى من اليوم حتى الوصول الى الاستحقاق الرئاسي التالي بعد ست سنوات مرشحاً وناخباً رئيسياً. كلا الحدّين رهان رابح لجعجع، إذ يرى ترشحه هو المعادل السلبي الذي يقصيه وعون عن الرئاسة الاولى في الاستحقاق الحالي.
مشكلة الاستحقاق ليس في المرشحين، بل في الفيتوات على المرشحين المهمّين
بذلك يبدو من غير الطبيعي ترجيح ما يأمل رئيس تكتل التغيير والاصلاح في رؤيته يقع أمام ناظريه، وهو تأييد رئيس حزب القوات اللبنانية انتخابه رئيساً. يعني ذلك في نهاية المطاف، إهدار الحملة التي قاد جعجع من خلالها ترشحه طوال ثمانية أشهر، وتحمّله وزر استمرار الشغور طيلة هذا الوقت. بدوره عون استنزف حملته حتى الرمق الاخير. حاور الرئيس سعد الحريري، وحصل على تأييد علني من حزب الله كان متيقناً منه أساساً، وهو يذهب الآن الى الحوار مع جعجع في سبيل تأكيد انتخابه رئيساً، لا البحث عن مرشح سواه.
في المحاولات الاولى لترميم العلاقة بين الزعيمين المارونيين منذ مطلع كانون الاول الفائت، وسط أحاديث حينذاك عن لقاء وشيك بينهما في الرابية، قال عون للمحيطين به: إذا كان يريد المجيء للاتفاق معي على مستقبله وموقعه في العهد الجديد، والضمانات التي يريدها مني كرئيس للجمهورية، فأهلاً به.
ثم عقّب بعبارة مكمّلة، مؤداها أن من غير المجدي استقبال زائره كي يسمع منه طلب التخلي عن ترشحه.
تزامنت عبارته هذه مع أولى محاولات الحوار بين تيار المستقبل وحزب الله، ولم تكن المعطيات المحوطة بها جدية بالقدر الذي تبدّى في ما بعد. لذا ظهر حوار عون ـ جعجع غير مقنع ومنطقي في توقيته. ما إن بدأت دورة الحوار السني ــ الشيعي تغيرت التوقعات في الشارع الماروني ـ الماروني، وبات أكثر استعداداً لخطوة موازية، تباشر بدورها الخطوة الاولى بوقف الحملات الاعلامية والاتهامات والتشهير. لم تعد ثمة شروط مسبقة على حوار العدوين المفطورين منذ عام 1988 على تبادل الكراهية والعداء. كذلك كانت حال تيار المستقبل وحزب الله حينما تزامنت لوائح الشروط المتبادلة توطئة لاجتماعهما، ثم تبخرت. كرّت في ما بعد سبحة التواصل بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. بل تستعيد أحاديث الزعيمين المارونيين في الايام الاخيرة الكثير من الودّ والتفهم والرغبة في استيعاب التناقضات وطيّ صفحة الماضي، كأنهما عشية انتخابات 1988 امتداداً الى عشية الشغور الرئاسي عامذاك، عندما بدوا متسامحين ومتعاونين على جبه ذلك الاستحقاق وتصرّفا كحليفين، ثم على إثر عودة عون من المنفى وزيارته جعجع في سجنه في أيار 2005. سرعان ما محوا كل هذا التسامح بانضواء أحدهما في المحور المناوئ للآخر ومشروعه، وباتا إحدى أدوات النزاع السني ــ الشيعي في الداخل.