أخيراً، التقى اللدودان. استراحت العائلة المارونية. باتت تشبه العائلات السياسية الحاكمة. انتهت من نكد الاتهامات، فلا ميشال عون «مجنون» ولا سمير جعجع «قاتل». صفحات سود طويت. الآتي ليس أبيض بالضرورة.
أخيراً، اكتمل نصاب التمثيل. لكل طائفة من يمثلها. الثنائية الشيعية استثناء، ولكنهما واحد بصيغتين في الداخل، بصيغة موحدة في الإقليم، السنية السياسية ممثلة بواحد. مَن تبقى مِن الأطراف، أو بدائل ضعيفة. الدرزية السياسية محتكرة من واحد أحد، حساب الآخرين فيها يطابق أحجامهم الضئيلة… الآخرون، من الطوائف والمذاهب، ملحَقون. طوائف درجة ثانية.
في صدفة رئاسية، «الحكيم» رشح «الجنرال». قطعا الطريق على سليمان فرنجية. جعجع أراد أن يُبعد الكأس المرة، وعون رغب بأن يقترب من كأس الرئاسة المشتهاة. قبض عون ترشيحاً ولم يقبض على الكرسي. جعجع، رسمل على المستقبل، فشمس «التيار» إلى غروب. ومع ذلك، فالطريق إلى بعبدا مغلقة بالنيات ومتعثرة بسبب فقدان النصاب وعدم اكتمال جدول الحساب. الكل يحسب ماذا يخسر. الأرباح قليلة جداً. مع عون، هناك حسومات متوقعة وفوائد ضئيلة. الرجل إن حكم، ليس كغيره. هامش المساومة قليل، وهامش المقاومة واسع، يصل إلى حدود التعطيل. وحده «حزب الله» مطمئن. حماية المقاومة مضمونة.
الاحتفال يعوِّض على جعجع. خسر الترشيح وفاز بالتمثيل المسيحي. حذفه سعد الحريري من دون أن يُعلمه أو يستأذنه. شيء من الاغتياب حصل، في شكلٍ سري. شيء من قبيل الطعن بالظهر. التخلي وحده إساءة. المجيء بترشيح فرنجية انقلاب. جيء بمرشح من «8 آذار» في غفلة تفاوض غير بريئة. الكل يعرف أن فرنجية ليس خصماً عادياً لجعجع. ما بينهما، فجيعة عائلية لم تندمل، وقد لا… أخطأ الحريري التقدير، أو تعمَّد ذلك، فكان الحل، اجتماع الماء بالنار في معراب، وعلى الملأ وبفخامة مشهودة.
بلى! في لبنان يجتمع الماء والزيت، والماء بالنار. فلا الزيت زيت وأما الماء فمزغول ومعتكر. لا قضايا تفصل. المصالح تلتقي أو تتباعد… حرفة السياسة في لبنان، اختصاص تجعل من السوريالي حقيقياً وواقعاً. من قواعدها، أنها بلا قاعدة. ما يكون مستحيلاً لزمن، يصير واقعاً في لحظة. شيء من الانتهاز الفجّ. من هنا، كانت المفاجأتان: مفاجأة ترشيح الحريري لفرنجية، حليف «حزب الله» والنظام السوري، ومفاجأة احتضان جعجع لعون. والأول، ضد «الحزب» و «بشار»، والثاني حليف دائم على الأقل، لـ«حزب الله». فخامة المشهدية، طوّبت عون مرشحاً في عقر دار «القوات»، وما بينهما، حتى وقت قريب، حروب طروادية سلاحاً وخطباً ومواقف.
سبق ذلك، أن قبل سعد الحريري بسليمان فرنجية مرشحاً. الأول، هو الأول في «14 آذار» والثاني هو الأول في علاقته ببشار الأسد، ومن الأوائل في تأييده لـ«حزب الله». ما هذا؟ انقلابان بين ليلة وضحاها. السبب واضح. «14 آذار» أنجزت فشلاً ذريعاً. لم تحقق شيئاً يُذكَر، وهي الأقوى. إيصال جعجع إلى الرئاسة ضرب من الخبل. هو في الأساس، فرض نفسه مرشحاً من دون استشارة أحد. تعداد أفشال «14 آذار» غير مفيد. إنما، كثيرة أخطاؤها، بليغة إخفاقاتها… ولا شبهة في ما آلت إليه خسائر «8 آذار»، لديها مرشح قوي في طائفته ولا تستطيع السير به إلى بعبدا. مارست قطع الطرقات الحكومية والنيابية. عبث. عون مرشح فقط. رئيس مع وقف التنفيذ. هو أو لا أحد. فلا هو صار ولا أحد بلغ بعبدا. فشل مبرَم. وليس هذا الفشل وحيداً. يندر أن تجد في مسار «8 آذار» إنجازاً، غير إنجاز التعطيل… هكذا يفهم عون مرشح جعجع وفرنجية مرشح الحريري. عجزان وفشلان يصنعان معجزات سلبية، حتى الآن.
هذا هو لبنان. هكذا كان وهكذا سيكون. تكوينه التوافقي لا يسمح بممارسة ديموقراطية. رعاياه، أتباع الطوائف، يملأون الحضور. مجتمعه فسيفساء لمجتمعات «قبل دولتية». يخوض اللبنانيون بتفانٍ مشهود معارك زعمائهم. يصطفون مرددين بلا كلل، معزوفتي «14 و8 آذار». ظهّروا خلافات وأصدروا براءات وعمموا مضابط اتهام تصل إلى حدود الخيانات العظمى، بلا أي مردود. امتلأ الفضاء اللبناني على مدار عقد، بما يباعد بين اللبنانيين، إلى حدود الطلاق، مع وقف التنفيذ والسوريالية اللبنانية أفضت إلى وقف العمل بالمواعيد الدستورية، نيابياً ورئاسياً، وإلى تشليع المؤسسات وتعميم الأضرار، حتى اجترحوا مأساة النفايات المذلة… كل خلافاتهم حاضرة، ولا تمنعهم من الجلوس معاً في مجلس الوزراء، وفي مجلس النواب، وحراسة المحاصصة في الوزارات الدسمة، أو وزارات السيادة المالية.
مواقف بلا رصيد، عقم بلاغي. نهايات تافهة. ثم، انقلاب من أجل تسوية مؤقتة. أو تسوية مشبوهة، واحدة باسم فرنجية وأخرى باسم عون.
ماذا غداً؟
الانتظار طبعاً. المرجَّح ألا يكون قصيراً. سنبقى، بين مرشحَين وبلا رئيس. وإذا حدث غير ذلك، فمن قبيل المعجزات التي تجترحها دول إقليمية، مشتبكة في اليمن وسوريا والعراق و… لبنان.
ومع ذلك، لا خوف على لبنان. وحده بين الدول، يستطيع أن يعيش في الفراغ. أن يعقدن الفراغ. «الدولة» باقية، النظام المخزي باقٍ، الطائفية مستقرة إلى أبد غير قليل، وأن لبنان المعتل كياناً وشعوباً، سيشكل النموذج المخزي الذي ستقتبسه دول ما بعد الحرائق في المشرق العربي.
من أمثولات الترشيحين ما يلي: ليس لدينا طائفة قائدة، مهما بلغت قوتها. «حزب الله» هزم إسرائيل، ولا يستطيع أن يفرض إرادته على أحد سواه. القوة تكسر البلد. على القوى الطائفية ان تمارس الضعف، لا أن تفرض سطوة القوة. الضعف ينقذ البلد. «14 آذار» الضعيفة، أقوى بكثير من كل قواها. فهي بحاجة دائمة إلى «8 آذار». الترشيحان دليلان، الوزارة دليل. وهذا ينطبق على «8 آذار». إننا بحاجة إلى سياسة الضعفاء، وليس سياسة الأقوياء والاستقواء.
إن لبنان لا يستحق، بكل أسف، سوى هذه الديكتاتورية. ديكتاتورية التسوية. وبانتظار هذه الديكتاتورية، لا بد من انتظارات إضافية، لرئاسة تأخّرت كثيراً.