من الطبيعي ان نرحب بالعزم على الحوار بين «التيار الوطني الحرّ» و«القوات اللبنانية» وان نرتاح لهذا التطور الإيجابي الذي ربما جاء متأخراً ولكن خيرٌ من ان لا يأتي ابداً. فقد كنا من أول الداعين الحاحاً وتكراراً منذ سنوات إلى اللقاء والتحاور بين هذين الحزبين «اللدودين» وطيّ صفحة الماضي الاليم بشكل نهائي. كما كنا على قناعة وما نزال بان اخراج الوضع المسيحي من كبوته وتصحيح مساره لا بد وان يبدأ من «نقطة ما». ونقطة البداية والانطلاق تتمثل في التلاقي والتحاور بين العماد ميشال عون رئيس «التيار الوطني الحر» والدكتور سمير جعجع رئيس حزب «القوات اللبنانية».
كثيرة هي المشاكل المزمنة والضرورات المتراكمة والمستجدة التي تستوجب مثل هذا الحوار وتدفع في اتجاهه. فعلى امتداد سنوات وبعد العام 2005 المفصلي تحديداً تاريخ خروج السوريين من لبنان، ظلت عملية التطبيق المجتزأ وغير المتوازن لاتفاق الطائف مشكلة كامنة وهاجساً دائماً لدى المسيحيين الذين رفعوا الصوت والشكوى كل على حدة ولاسباب مختلفة، ولكنهم لم يلتقوا يوماً لرفع الظلم او للاتفاق على خارطة طريق لتغيير الوضع وتصويبه.
ومنذ فترة برز خطر الارهاب والتطرف والعنف الذي جسّده «تنظيم داعش واخواته» بأوضح وأبشع اشكاله، وبدأت تعصف بالمنطقة تحولات ومتغيرات سياسية وجغرافية واستراتيجية على وقع صراع (سني – شيعي) خطير، ونجح لبنان بالرغم من كل هذه المحاولات وبفضل سهر جيشه واجهزته الامنية ووعي ابنائه من احباط محاولات زجه في اتون هذه الحرب مباشرة على رغم المحاولات المتكررة لزرع الفتنة واخرها التفجير المجرم الذي استهدف مقهى في جبل محسن وذهب ضحيته 9 شهداء واكثر من 40 جريحاً.
وسط كل هذه الاحداث والصراعات، يرزح المسيحيّون في لبنان تحت وطأة أسئلة وجودية و«قلق مصيري» في ظل ما تعرض ويتعرض له المسيحيون وبعض الاقليات الدينية الاخرى من قتل وتشريد وتنكيل في العراق وسوريا وليبيا وغيرها, حيث دفعوا ثمناً باهظاً لحرب «لا ناقة لهم فيها ولا جمل».
اللقاء بين عون وجعجع ليس لقاء «مصالحة» وانما « لقاء عمل ومصارحة» لاطلاق مسيرة حوارية وافتتاح مرحلة جديدة. «فالمصالحة» اذا صح التعبير تمت في لقاءات بكركي وتحت سقفها والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كان له الفضل الأول في انجاز الخطوة الأولى واحداث تغيير في المناخ المسيحي والتمهيد لهذا الحوار المباشر بين عون وجعجع وذلك من خلال جمع قادة الاحزاب المارونية الأربعة تحت قبة بكركي. وها هي ارتدادات هذه اللقاءات بدأت تظهر عبر حوار ثنائي مرتقب بين «التيار والقوات» وهو يأتي في سياقها ومن خلال الإطار الذي رسمته بكركي، وكان سبقها ايضاً حوار ولقاءات بين «القوات والمردة» لا يزال مستمراً املين ان يتكلل هذا الحوار وفي اقرب وقت بالنجاح.
لا يكفي ان يعقد العماد عون والدكتور سمير جعجع العزم على اللقاء. وانما المطلوب ان يعقدا العزم على النجاح والوصول إلى نتيجة تصب ولو لمرة واحدة في مصلحة المسيحيين ووجودهم وبقائهم في لبنان والمنطقة. وهنا ساكون صريحاً ومباشراً وأقول للعماد عون والدكتور جعجع ان عدم اللقاء بينكما يبقى أفضل بكثير من اللقاء الفاشل. فالفشل ممنوع ولا تحتمله المرحلة والظروف الراهنة والحالة المسيحية العامة, فالمسيحيون لم يعد باستطاعتهم تحمل نكسات وهم قلقون على وجودهم ومصيرهم في هذه الايام أكثر من أي وقت مضى، وهم ما زالوا مقيمين في دائرة الاحباط والشعور بالغبن والانتقاص من حقوقهم وتهميش دورهم.
وعلى عون وجعجع ان يدركا ان الهوة تتسع بين الشعب والسياسيين عموماً إلى درجة أصبح الشعب في وادٍ والسياسيون في وادٍ آخر؟ وان ما هو أخطر من كل ذلك هو ان المسيحيين بدأوا ينزعون إلى الشك واليأس من اداء سياسييهم، فهم ما عادوا يمحضونهم الثقة ولا يأمنون مناوراتهم ولا يعلقون عليهم امالاً ولا ينتظرون شيئاً منهم بسبب التجارب غير المشجعة التي عاشوها معهم واوصلتهم الى «التحت الذي ليس تحت تحته تحت»، كما كان يقول السفير الراحل فؤاد الترك رحمات الله عليه.
وإذا كان العماد عون والدكتور جعجع على بيّنة من الواقع المسيحي كما هو فعلاً وليس كما يُصوّره لهما بعض المحيطين واصحاب المصالح، فالمطلوب وبأسرع وقت ممكن دخولهما في حوار عميق ومسؤول وجدي وصادق وفي توفير كل مقومات النجاح له، لأن الفشل ممنوع وممنوع وممنوع .
المسيحيون وبكل صراحة سئموا الخلافات وما عادوا يحتملون الخيبات والتجارب الفاشلة، وباتوا يتلهفون إلى نجاحات وانجازات. فهم ضاقوا ذرعاً بكل ما يذكرهم بالماضي الاسود والاليم ويمت إليه بصلة ويرغبون في ان يسمعوا كلاماً يبدي المصلحة المسيحية العليا على كل المصالح والطموحات الشخصية ويروا أفعالاً للمستقبل تُفتح اوضاعهم على آفاق جديدة وتؤمن مستقبلاً واعداً لجيل الشباب.
المسيحيون الصابرون الصامدون والمسامحون يرددون تلقائياً ومنذ العام 1988 وحتى العام 2015 كلمة (عون جعجع – وجعجع عون) وملوا من هذه النغمة.
وبالرغم من كل ذلك اعطى المسيحيون العماد عون والدكتور جعجع فرصة ثانية عام 2005 بعد الخيبة والسقطة وحروب الاخوة التي كسرت ظهر المسيحيين بين اعوام (1988 -1991) آملين ان يكونوا قد تعلموا من دروس الماضي الاسود، وها هم اليوم يعيدون الكرة ويعطونهم الفرصة الأخيرة والنهائية، فإما ان ينجحا في حوارهما ويعيدا للمسيحيين دورهم وحضورهم ويدخلا التاريخ معاً من بابه العريض، وأما ان يهدرا هذه الفرصة ويخسرا ويخسر معهما المسيحيون ويمثلا امام محكمة التاريخ.
من هنا واقولها بكل اصرار يجب ان يكون الحوار حواراً دائماً ومفتوحاً، وهذا مسار يجب ان يستمر ويكمل، وهذا نهج سياسي يجب ان يتواصل حتى تحقيق الاهداف التي لها صلة حصراً بالمصلحة المسيحية واللبنانية العليا.
ان الحوار بين « التيار والقوات « ضروري وملح كونه يأتي في لحظة مصيرية ومفصلية خطيرة تعيشها المنطقة، لمناقشة مجمل الوضع المسيحي وحاجته إلى انتعاش وانقاذ بما يتناسب مع حجم الاخطار ودقة المرحلة، وكيفية ترسيخ وتفعيل الحضور المسيحي في الدولة ومؤسساتها…
كما انه من غير المنطقي والواقعي حصر الحوار فقط في موضوع رئاسة الجمهورية، لانه إذا اردنا ان نغلّب التفاؤل على الواقع وحدث اتفاق بين الرجلين حول الرئاسة، فانه ليس هناك من وما يضمن ان يكون هذا الاتفاق مخرجاً وأساساً للحل وان يُعتمد ويشق طريقه إلى التنفيذ، لانه صحيح ان للمسيحيين كلمة في الاستحقاق الرئاسي ولكن واقولها بكل موضوعية فان ليست لهم الكلمة الفصل، كون هذا الموضوع خاضعاً لاعتبارات التوافق والتوازن الداخلي وواقعاً تحت تأثيرات وتعقيدات اقليمية ودولية.
من هنا يصبح من الأنسب والأجدى عدم التركيز فقط على رئاسة الجمهورية، بل فتح الحوار على مسائل وملفات أساسية وثوابت اخرى تتناسب مع حجم الاخطار المحدقة وتشكل مساحات وقواسم مشتركة بين مختلف الأفرقاء المسيحيين. ومن اهمها «مواصفات الجمهورية» وصولاً إلى تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية وجعلها متناسبة مع المسؤوليات والمهام المنصوص عليها في الدستور وهذا أمر ممكن ومطلوب، ووضع خطط وبرامج تلحظ استعادة الوجود والدور المسيحي الفاعل والمؤثر في الدولة ومؤسساتها واستعادة التأثير المسيحي في صنع القرارات والسياسات الوطنية وتحقيق المشاركة الفعلية.
وكذلك يجب البحث والاتفاق على تصحيح الاختلال الفاضح في مستوى التمثيل المسيحي في المجالس النيابية المتعاقبة بعد الطائف وفي المجالس والمؤسسات وإدارات الدولة على كافة المستويات. ووضع خريطة طريق واضحة ومحددة توصل إلى هذا التوازن بدءاً من قانون جديد للانتخابات مروراً باللامركزية الإدارية الموسعة…
كما ان الحوار يجب ان يمتد ليشمل إعادة صياغة الدور المسيحي في لبنان والمنطقة والذي لا يمكن إلا ان يكون دوراً وسطياً ووفاقياً وبمثابة جسر عبور وتقارب ومساحة عازلة بين (السنة والشيعة).
الحوارات مفيدة وجيدة وضرورية كونها تخفف الاحتقان والتشنج على الأرض لذلك يجب ان تلقى التشجيع والمساندة سواء حوار (المستقبل – حزب الله) أو حوار (التيار-القوات)، وان لا تظل حوارات ثنائية فتشكل هاجساً ومصدر قلق لقوى واحزاب اخرى. فلا الحوار (السني – الشيعي) يجب ان يقلق المسيحيين كونه لا يمكن ان يكون على حسابهم اذا ما اتفقا. ولا الحوار (بين التيار والقوات) يجب ان يقلق (الكتائب والمردة) وغيرهم كونه لا يستطيع احتكار الموقف والقرار على الساحة المسيحية … على أمل ان تكون هذه الحوارات الثنائية مقدمة وتمهيداً لحوار وطني جامع وشامل وجدي ورصين ومثمر لا يستثني أحداً ويخرج لبنان من محنته التي طالت كثيراً …