لا أحد قادراً، او يريد الدخول على خط الوساطة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري لانهاء القطيعة الناشبة بينهما منذ اجتماعهما الرابع عشر في 23 كانون الاول
أول المفترض انه أقدر السعاة وأكثرهم تأثيراً، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، أوصد أبواب عين التينة وانتقل الى الجنوب لأسبوعين من الاستراحة على الاقل.
برّي الصامت المتذمّر الى الجنوب لاجازة طويلة في انتظار حدث ما (هيثم الموسوي)
في الأيام الاخيرة لزم برّي الصمت، فلم يُسمع يتحدّث عن مصير تأليف الحكومة كأنه غير معني بها، او يبدي استعداده لأي محاولة، عاكساً الامتعاض المجبول بخيبة الامل، وانتظار ما قد يحدث ولا يكون في الحسبان. لم يعد ما بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري خلافاً على وجهات نظر حيال التأليف، مذ قدّم الرئيس المكلف مسودة حكومة من 18 وزيراً عشية الميلاد ورفضها رئيس الجمهورية. ما بينهما يختلط الشخصي بالموقفين العام والدستوري، والعناد بالامتناع عن ايجاد المخارج، بإزاء المأزق الحالي الذي بات اكثر ارتباطاً بضوابط فرضها الرجلان، ما يجعل من المتعذّر تجاوزها ما لم يتبادلا التنازلات او يُفرض عليهما امر واقع لا يسعهما تجاهله:
اول الضوابط تلك ان رئيس الجمهورية لن يتخلى عن دوره الفعلي، الدستوري، كشريك للرئيس المكلف في تأليف الحكومة، وإن اقتضى امرار السنتين المتبقيتين في عمر الولاية في ظل حكومة تصريف اعمال. ما يعنيه موقف الرئيس ان توقيعه مرسوم تأليف الحكومة لا يتوقف على موافقته على اسماء الوزراء المسيحيين وحقائبهم، او على حصته هو، بل الاتفاق على اسماء الوزراء جميعاً، فرداً فرداً، ما دام توقيعه يمنح التشكيلة طبيعتها الدستورية، ويتيح لها ابصار النور.
وسواء نُظر الى هذا الاعتبار كأحد مقاييس ما بات يُدعى وحدة المعايير، او عُدّ في صلب الصلاحية الدستورية لرئيس الجمهورية، فإن الحقيقة الجديدة المرتبطة بهذه الصلاحية، ان عون كرّس سابقة الشراكة الفعلية لرئيس الجمهورية في تأليف اي حكومة، وإن كانت هذه في مرحلتها الاولى غير الناجزة مهمة الرئيس المكلف.
لم يقل يوماً انه هو الذي يؤلف الحكومة، شأن ما اشاع الحريري مراراً كما لو ان الصلاحية مطلقة بلا قيود، او كما لو ان اياً من الرؤساء المكلفين اسلافه منذ اتفاق الطائف، ابان الحقبة السورية وبعدها، اعتاد بمفرده على تأليفها وقصر مهمة رئيس الجمهورية على التوقيع. في نهاية المطاف من دون توقيع رئيس الدولة، يفقد الرئيس المكلف اي صلاحية تقريرية. اهمية السابقة ان اياً من رؤساء الجمهورية الذين سيخلفون الرئيس الحالي، لا يسعه بعد الآن التفريط بها او اهمالها.
التكليف بطاقة التعريف الضرورية التي يحتاج اليها الحريري خارج البلاد
ثاني الضوابط، اصرار الحريري على التمسك بتكليفه، ورفضه الاعتذار اياً تكن وطأة الضغوط التي سيجبهها، وإن هو قبالة رئيس للجمهورية تصعب المساكنة معه. ما دام الدستور لا يقيّده بمهلة، ليس لأحد – بما في ذلك الغالبية النيابية صاحبة التفويض التي لم تجرّب – انتزاع التكليف منه. مغزى ذلك، بسبب العائق الدستوري وهو السابقة التي كرّسها قبل الحريري اسلافه ومن بعده سيرثها خلفاؤه، ان عليه ان لا يعترف يوماً بفشله في تأليف الحكومة، بل القاء اللائمة إما على رئيس الجمهورية غير المتعاون، او على الكتل والقوى السياسية وشروطها.
يفترض ذلك ان كل رئيس مكلف هو صاحب حق، ليس قابلاً للتنازل. مصيب وإن اخفق، او تكاسل في العثور على الحلول، وليس ثمة سبب يحمله عن التخلي عن هذا الامتياز. سبق للرئيس رفيق الحريري ان اعتذر مرتين عن عدم تأليف حكومة، اولى بعد تكليفه عام 1998 وثانية قبل تكليفه عام 2004، من غير ان يرى اعتذاره يمسّ طائفته، او يتعرّض اليها ويهينها، او نعت التكليف بأنه خطها الاحمر. مقارنة كهذه هي حتماً ظالمة للاب، لا لإبن لم يكن يوماً سرّ ابيه.
ليس الجانب الدستوري فحسب ما يعني الحريري او يتذرّع به، بل ثمة جانب شخصي لا يقل اهمية يحتاج اليه. بصفته رئيساً مكلفاً الى ما شاء، وضع الحريري في جيبه «بطاقة تعريف» يسعه التنقّل بها لمقابلة رؤساء الدول على انه الرئيس المقبل للحكومة اللبنانية. بطاقات الائتمان التي اتسمت بها سمعة والده حيثما حلّ تبخّرت، فإذا المرشح لترؤس حكومة لبنان تعوزه بطاقة تعريف فقط. من دونها هو نائب ورئيس كتلة، كلاهما غير كافيين كي يُحتفل به حيثما يهبط. فكيف اذا كان مثقلاً بالخصومات، بلا ظهير عربي اعتاده بيته منذ الحريري الاب، حاملاً على ظهره اكياس اخفاقاته وافلاس شركاته وديونه المتنقلة ما بين البلدان؟ اضف فقدانه زعامته المطلقة لطائفته في الداخل التي احتاجت منذ عقد الاربعينات، وليس منذ ايام والده الراحل فحسب، الى ظهيرها السعودي سياسياً ودينياً ومالياً. تصبح الابواب اكثر ايصاداً حينما يتيقّن من ان الرابط الوحيد، الاخير المتبقي، الذي لا يزال يجمعه بالرياض حتى الآن هو الجنسية السعودية، اذ تجعله ابناً طائعاً فيها.
ببطاقة التعريف ذهب في عطلة الاعياد الى الامارات العربية المتحدة، ومنها الى تركيا، ثم عاد اليها. في الرحلة الاولى الى ابو ظبي رَامَ الحصول على الجرعة الاولى من لقاح فايزر، من بعدها الى انقرة لمعالجة ديونه المتراكمة هناك، ثم الى ابوظبي اخيراً من اجل الجرعة الثانية من اللقاح. في الرحلة الثانية الى الامارات لم يُجَب عما طلبه – وقد طلبه هدية – وهو الحصول على 250 الف لقاح صيني كانت الامارة اشترت كمية هائلة منه، فقفل الزائر العادي عائداً.
ثالث الضوابط، تبعاً لما هو منسوب الى اوساط الرئيس المكلف، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مربكاً، ان الخلاصة الفعلية للخروج من مأزق تعذّر تأليف الحكومة باتت تحوم من حول فكرة ما الذي يقتضي ان يقدّمه الى رئيس الجمهورية – او يتراجع عنه – كي يصل الى السرايا، ما يعني تسليمه بالشراكة الفعلية لرئيس الجمهورية في التأليف.
ليست الصدمة الاولى يواجهها، وتلزمه تقديم تنازل مستحق في سبيل تكريس ترؤسه الحكومة. فعل ذلك من قبل في تشرين الاول 2016 عندما أيّد وصول عون الى قصر بعبدا على انه السبيل الوحيد الذي يعيده هو ايضاً الى السرايا. كان قبلاً ضد انتخابه، ثم ذهب في تشرين الثاني 2015 الى نقيضه رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه ثم استسلم اخيراً الى الرابية. حصل امر مشابه بنتائجه عام 2009. رغم تزعّمه الغالبية النيابية بعد انتخابات عامذاك، لم يسعه تأليف حكومته الاولى الا بعد استرضاء عون في الحقائب التي يريدها. على نحو كهذا اتسمت علاقات الرجلين بانعدام الثقة على الدوام. لكن ايضاً بالاستسلام في اللحظات الاخيرة.
اليوم يجبه الحريري اختباراً مماثلاً: ها هو في غرفة بلا نوافذ كي يقفز منها. لا باب خروج منها الا واحداً.