السجال المتواصل بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري لا يوحي بأنّه صراع بين “جبّارين”، بل على عكس ذلك إنه صراع بين ضعيفين. استسلم عون لخيارات “حزب الله” وسلّم الحريري بما طلبه الحزب والرئيس نبيه بري وبعد ذلك انصرفا إلى التقاتل على ما تبقّى من حصص في الحكومة التي لا ترى النور.
لو كان عون قويّاً لناقش الرئيس المكلّف بكلّ التشكيلة الوزارية. ولما اكتفى بالمطالبة بتسمية الوزراء المسيحيين، جلّهم لا كلّهم. ولما كان قدّم لوائح بأسماء يقترح الإختيار من بينها. ولما كان قبِل بما رضي به الحريري بإعطاء وزارة المال للشيعة وبتسمية الثنائي الشيعي الوزراء الشيعة. ولما كان قبل أن يتفاوض الحريري مع الطاشناق والمردة وأن يسلّم لهم بالتوزير أولاً وباختيار الحقائب والوزراء ثانياً. من يتخلّى عن كل ذلك كيف يكون قوياً وكيف يحقّ له أن يتمسّك بالمشاركة في تسمية ما تبقى من وزراء؟ هل هو شريك كامل في عملية التأليف وإصدار المراسيم؟ أم أنّه شريك في حصة صغيرة؟ وعندما يتّهم الرئيس سعد الحريري بأنّه يخرق الدستور فهو البادئ بهذا الخرق لأنّه يوافق على خرق الحريري ويبني عليه وينطلق منه وبذلك يكون يتنازل عن صلاحياته. كان يمكنه أن ينقض اتفاقات الحريري ويتخطّاها ليكمل مشروع التأليف قبل أن يرضى بما تركه له “حزب الله” وغيره. لو كان عون قويّاً لقال للحريري “لست موافقا على ما وافقت عليه. تشكيل الحكومة يبدأ من نقض هذه التفاهمات. من هنا يمكن أن نبدأ”.
ولو كان الحريري قويّاً لما كان ارتضى أن يعود بهذه الطريقة الضعيفة إلى رئاسة الحكومة. ولما كان وافق قبل أن يطرح نفسه مرشّحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة أن يعطي للثنائي الشيعي ما يريده، ولو كان كما قال لمرة واحدة. لأنه بعد ذلك لا يمكنه أن يضع الشروط على رئيس الجمهورية ويفاوضه على حصة تعتبر مسيحية. كما الرئيس مسؤول تجاه الدستور عن كل التركيبة الحكومية فالرئيس المكلّف مسؤول أيضاً عنها كلّها. ولو كان الحريري قويّاً لما كان موقفه ضعيفاً تجاه ما شهدته عاصمة الشمال طرابلس. الشارع الذي تحرّك في طرابلس، إذا كان من شارع أهل المدينة، وإذا كان الحريري يعتبر نفسه الأقوى في طائفته، فلماذا لا يستطيع أن يمون على هذا الشارع؟ لا يستطيع رئيس الحكومة “القوي” أن يتّهم الجيش اللبناني بالتقصير والتفرّج على ما حصل في طرابلس وعدم التدخل. لو حصل العكس وتدخّل الجيش وسقط قتلى في تصدّيه للمتظاهرين العنفيين ماذا كان ليفعل الرئيس الحريري؟ وهل كان يمكن أن يدافع عن دور الجيش ويمنع تحميله المسؤولية؟ أم سيشارك في وضع هذه المسؤولية عليه واعتباره أنه تصرّف بقوة وبعنف؟ هل كان يختار صفّ الجيش أمّ صفّ من يعتبر أنّه من بيئته وجمهوره؟ لو كان الرئيس الحريري قويّاً لكان باستطاعته أن يمون على الشارع الطرابلسي أكثر وأن يتجنب وقوع الكارثة قبل حصولها. عندما يتحرك الشارع الطرابلسي، أو الشارع في طرابلس، بهذا الشكل فهذا يعني أن كل ممثلي طرابلس في السياسة والزعامة وفي مجلس النواب ضعفاء. ولذلك لا يستطيع الرئيس الحريري أن يدخل حرباً مع رئيس الجمهورية بعدما تجنب المواجهة التي كان يجب أن يبدأها مع “حزب الله”. وحالة الحريري مع هذا الشارع لا تختلف عن حالة عون والتيار الوطني الحرّ الذي يمثله. كلاهما متساويان في الضعف.
يستطيع الرئيسان عون والحريري معاً أن يصنعا من الضعف قوّة إذا أعادا رسم طريق جديد لتشكيل الحكومة ورسم خريطة طريق للمواجهة حيث يجب أن تبدأ وحيث يجب أن تكون. الحرب الدائرة بين الرئيسين إذا بقيت ضمن هذا الإطار الذي تتفجّر فيه لا تعني إلّا أنّها حرب بين ضعيفين. هي حرب للتعطيل المتبادل وليست حرباً من أجل تشكيل الحكومة. هي حرب كلاهما خاسر فيها بينما رصيدهما يتآكل ولم يتبقّ لهما الكثير. إنّها حرب استنزاف القوّة وضياع الفرص. ولذلك ربّما المطلوب منهما معاً وقف هذه الحرب وبدل الذهاب إلى التراشق بالبيانات المكتوبة أن يعملا على صياغة بيان جديد يستعيدان فيه قواعد اللعبة الأساسية لتشكيل الحكومة. الكلام لم يعد مختصراً مفيداً بينهما كما اللغة التهديدية التي يستعملانها. وتشكيل الحكومة لا يكون بالحديث عن مواقف نهائية يصبح التراجع عنها مكلفاً جدّاً للطرفين. بدل النقطة على السطر يجب أن يضعا النقاط على الحروف وبدل أن يصطفّ حولهما الأنصار وقارعو الطبول من أجل خوض المعركة الخاسرة يجب البحث عن مخارج جديدة.
إنّ التعطيل المتبادل الذي ينتج عن هذه المواجهة لا يؤدّي إلّا إلى ترسيخ الإنقسام والتسريع في عملية الإنهيار واستنزاف الجيش وقدراته كما تمّ استنزاف مصرف لبنان وقدراته. لا يستطيع الجيش والقوى الأمنية الإنتظار طويلًا حتى تبدأ عملية الإنقاذ طالما أن لا قوى تعمل على الإنقاذ وطالما أن هذا الصراع بين الرئيسين لا يؤدّي إلّا إلى تسريع الإنهيار. عندما بدأت ثورة “17 تشرين” كان مصرف لبنان لا يزال قادراً على تجنّب الإنهيار المالي لو بدأت عملية الإنقاذ قبل الثورة وكان بالإمكان الحد من سرعة الإنهيار لو كانت هناك معالجة بعد الثورة من خلال حكومة إنقاذ مستقلّة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب في الصراع السياسي. هذا الإستنزاف المتواصل من دون رؤية سياسية إنقاذية أدّى إلى هذا الإنهيار الإقتصادي وإلى حرب مفتوحة ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذه الحرب التي لا أفق لها تؤدي إلى مزيد من الإنهيار. فهل يريد الرئيسان أن يحصل مع الجيش والعماد جوزف عون الأمر نفسه؟ الأمن والمال كانا الإحتياط الذي يعوّض الخسائر التي تنجم عن الصراع السياسي. الإحتياطي المالي انتهى تقريباً وليس من السهل تعويضه. ولكنّ الإحتياط الأمني إذا انتهى يكون الوضع أخطر بكثير وربما لا يمكن تعويضه. من هنا تبدأ مسؤولية الرئيسين عون والحريري. ومن هنا قد يكون من الواجب أن يعودا إلى قواعد اللعبة لا أن يتسمرا في الخروج عليها. وإذا لم يحصل مثل هذا الأمر وتبدأ هذه المراجعة لا يمكن لوم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عندما يقول “إن النظام اللبناني في مأزق بسبب الحلف الشيطاني بين الفساد والترهيب”، معلنا أن “عاطفته تذهب نحو شعب لبنان، أمّا قادته فلا يستحقّون بلدهم. لبنان نموذج تعدّدي في منطقة عصف بها الجنون”. ما يحصل بين الرئيسين عون والحريري إذا استمر لا يمكن وضعه خارج سياق الحلف الشيطاني بين الفساد والترهيب ولا يمكن وصفه إلا أنّه تعبير عن حالة من الجنون. وإذا لم يكن باستطاعتهما وقف هذا الإنحدار ربما يكون من الأفضل لهما وللّبنانيين أن يعتذرا معاً عن تحمّل المسؤولية في هذه المرحلة التي لا يمكن فيها أن يستمرّ الرقص فوق القبور.