«صار التأليف فضيحة، ووصمة عار غير مسبوقة في الحياة السياسيّة»؛ هذه الجملة، وغيرها جمل أخرى تحت الزنار وفوق القدح والذمّ، تضجّ في كلّ الصالونات، وتتردّد على ألسنة كلّ الناس، وهم يبحثون عن حكومة ضائعة بين «وطاويط» تُرى من «بيت الوسط» في القصر الجمهوري، وبين غرف سوداء تُرى من القصر، وهي تبث ما يصفها الأكاذيب من «بيت الوسط»!
اسئلة بديهية تستحضرها هذه الفضيحة؛ كيف يمكن لحكومة أن تولد بعد من رَحَم الوطاويط والأكاذيب؟ وإن ولِدت هذه الحكومة، طوعاً او بالإكراه، فأيّ حكومة ستكون؟ وأيّ مدرسة من المدارس السياسيّة تبيح هذه اللعبة العبثية وبهلوانيّاتها ومراهقاتها وصبيانيّاتها، وأن يمارَس فيها هذا السلوك المقيت الذي أسقط آخر ورقة توت، تستر المقاربة الفضائحيّة للاعبين على حلبة الحكومة، و»نشّف» ماء وجوههم ولم يبقِ لديهم ما يحفظها؟
مقت اللبنانيون هذه اللعبة، وبلغ فيهم الحال حدّ السؤال: من يحكمنا، مسؤولون، أم كائنات فضائية لا علاقة لها بأهل الأرض، ولا تعرف ماذا يجري؟
أحد كبار المسؤولين، نال منه القرف، مجرّد أن تسأله عمّا استجد في ملف الحكومة، يثور غضباً ويعبّر عن قرفه مما بلغه الحال، ويقول: «لقد هرّ البلد وطار، في لعبة تبدو بين كبار لكنّها تدور بعقول صغار، بسلوكهم المخجل بنوا مدرسة إفساد للحياة السياسيّة في لبنان، مدرسة بلا رجال دولة عنوانها «إن لم تستحِ افعل ما شئت».. لقد اغتالوا الدولة عن سابق تصوّر وتصميم؟
سؤال لا يجد المسؤول عينه جواباً له: ما سرّ تعمّد خداع الناس، وكيف لرئيس أن يطلب من رئيس أن يشيع إيجابيات حول لقاء غارق من بدايته إلى نهايته بالسلبيات؟ وكيف لرئيس أن يستجيب لطلب رئيس فيوهم الناس بإيجابيات، وفوق ذلك يتصل بسياسيين ويقول لهم «الجوّ منيح والامور ماشية»، ثم ما يلبث أن يذوب الثلج و»يبيّن» مرج الخداع، وتسود لغة الوطاويط والاكاذيب في الأرجاء، هل هكذا يتصرّف رجال الدولة؟
ما يجري على حلبة التأليف بين الشركاء في إتمام هذا الاستحقاق، يتغاضى عمداً عن حقيقة أنّ البلد يوشك أن ينتهي ويصبح هو وشعبه في خبر كان، فالأزمات المتلاحقة التي باتت تطال كل أوجه حياة اللبنانيين إقتصاديًّا واجتماعيًّا ومعيشيًّا، صارت تشكّل عبئاً لا أحد قادراً على تحمّله، وتنذر بانفجار اجتماعي خطير، بات يلوح من افق عمليات السلب اليومية العابرة للمناطق، فيما روائح الفساد التي تفوح من كلّ ملف حوّلت «بلد الأرز» بالفعل إلى «جمهورية موز».
لو تأملنا اليوم في المشهد السياسي، لوجدنا أنّ الخلل الذي يتمثّل عنوانه الرئيسي اليوم في العِقَد الحكوميّة، ما هو الّا انعكاس فجّ لمرض سياسي مزمن هو تسخير البلد لخدمة الطموحات أو حتى الأهواء الشخصية، ورهن كل أوجه الحياة لتأمين مكسب فئوي هنا أو منصب هناك.
هذه الحالة، يُسقطها خصوم تيار «المستقبل» على سعد الحريري، الذي يرى في الحكومة الجديدة فرصة لاستعادة حضور ووهج وبريق افتقده، واوّل الطريق الى ذلك، يكون بالإمساك بحبل الحكومة ومطلق الحرّية بتوجّهاتها وقراراتها.
وهذه الحالة ايضاً، يقول خصوم الرئيس ميشال عون و«التيار الوطني الحر»، إنّها تنطبق تماماً على رئيس الجمهورية، الذي بحسب اعتقادهم، لم يتغيّر نهجه السياسي بين «جنرال» وصف «بالمتمرّد» في «قصر الشعب»، و»رئيس شرعي» في «القصر الجمهوري». يقول هؤلاء الخصوم، إنّه «قبل ثلاثين عاماً ونيّف أدخل «الجنرال» لبنان في واحدة من أخطر المغامرات المدمّرة، يوم كانت «الحرّية والسيادة والاستقلال» مجرد واجهة لطموح رئاسي. وأمّا اليوم، فيكرّر المغامرة نفسها، مع تعديلين طفيفين، الأول هو أنّ المغامرة الراهنة مجيّرة اليوم لصالح جبران باسيل، والثاني هو أنّ الشعار الواجهة بات «مكافحة الفساد» و»التدقيق الجنائي»… إلى آخر تلك المسميات التي لا تُطعم جائعاً ولا تشفي مريضاً».
لهذا يمكن افتراض أنّ كل شيء في البلاد بات يقارَب بمقياس الاستحقاقات المؤجّلة، سواء أكانت استحقاقاً انتخابياً لمجلس النواب أو استحقاقاً انتخابياً للرئاسة الأولى.
بالنسبة إلى عون، باتت المعادلة واضحة تماماً. هذا ما عكسته حرب البيانات الأسبوع الماضي، التي نشرت الكثير من الغسيل المتسخ للطبقة السياسية اللبنانية. يريد الرئيس الثلث المعطل، ولا تنازل عن الوزارات الثلاث الداخلية، الدفاع والعدل. بمعنى آخر. وعلى ما يُقال، فإنّ الرئيس يريد أن تكون الحكومة منصّة تبقيه في صدارة اتخاذ القرار أو تعطيل القرار، على حساب الأفرقاء الآخرين، حتى لا يكرّر تجربة الرئيس اميل لحود في اواخر ولايته، أو يصبح مجرّد رئيس شرفي لـ»جمهورية التايتانيك» كما وصفها جان ايف لودريان، أو الاستحواذ على المفاصل الثلاثة الرئيسية في المنظومة الأمنية – العسكرية – القضائية، على النحو الذي يمكن أن يعزز الحضور العوني في عمق الدولة أكثر فأكثر.
في الحالتين، ينطلق الموقف العوني من حقيقة أنّ الحكومة المقبلة ستكون على الأرجح حكومة انتخابات، إذا ما سمحت الظروف بإجرائها، فستكوّن خريطة سياسية مغايرة لتلك القائمة حالياً، خصوصاً لدى التيار البرتقالي، الذي ثمّة من يؤكّد من الآن أنّ الانتخابات المقبلة ستخسّره الكثير، حيث أنّ التصويت العقابي لـ«العهد» سيكون سيّد الموقف، وهو ما سيشكّل الضربة الأخيرة للطموحات الرئاسية لجبران باسيل، بعد الضربة الأولى في 17 تشرين الأول 2019، والضربة الثانية المتمثلة في العقوبات الأميركية التي فُرضت عليه أخيراً.
بطبيعة الحال، لا يمكن تحميل عون وحده مسؤولية التعطيل الحكومي. فالرئيس المكلّف يتحمّل قسطاً كبيراً في المسؤولية، خصوصاً أنّه أخفق في تحصين التأليف بمظلّة سياسية، يوم اختار ان يمضي في هذه العملية من دون مشاورات فعلية مع الكتل النيابية والسياسية.
مع ذلك، قد تكون ثمة أسباب تخفيفيّة للمسؤوليّة التي يتحمّلها الحريري، مقارنة بتلك التي يتحمّلها الثنائي عون – باسيل. فرئيس الحكومة المكلّف يقود عملية تكليف تبدو أشبه بعربة يجرها حصانان أو ربما أكثر، في اتجاهات متناقضة.
من ناحية يواجه الحريري المعادلة الداخلية التي باتت تعقيداتها أكثر استعصاءً على الحلّ، في ظلّ التناحر غير المسبوق على الحصص، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالمطالب الرئاسية المشار إليها، والتي إن تمّت الموافقة عليها فستكون على حساب فرقاء مسيحيين آخرين أو ربما على حساب طوائف اخرى. ومن ناحية ثانية، يواجه الحريري التعقيدات الخارجيّة التي تجعله غير قادر على الذهاب نحو حكومة مشابهة لحكومة حسان دياب، التي دأب كثيرون ولا يزالون على وصفها بأنّها «حكومة حزب الله»، لسببين أساسيين: الأول، هو انّ المجتمع الدولي قد ربط بالفعل دعمه للبنان بتشكيل حكومة بمعايير معيّنة حدّدتها المبادرة الفرنسيّة. وأما الثاني، فهو سيف العقوبات الأميركية الذي سيظل مصلتاً على لبنان حتى العشرين من كانون الثاني المقبل أو ربما بعد ذلك أيضاً. ذلك أنّ الادارة الأميركيّة الجديدة قد تكون أكثر «صقورية» في توجّهاتها، أقلّه خلال العام الأول من رئاسة جو بايدن.
هكذا تتقاطع عوامل الداخل والخارج في جعل لبنان مفتوحاً أمام كل الاحتمالات الكارثيّة، التي لن تتأخّر في الظهور، طالما أنّ لا افق واضحاً أمام تشكيل الحكومة، وخصوصاً بعدما قطع الفرنسيّون الأمل من لبنان، وباتوا أكثر ميلاً للانشغال بالحالة الصحيّة لرئيسهم من الإنشغال بالحالة النفسية لطبقة سياسية محكومة بهستيريا جنون العظمة والشيزوفرينيا الممارسة بحق الشعب، ومسيّرة بطموحات المناصب، في بلد يمضي بسرعة قياسية نحو قعر الهاوية.