Site icon IMLebanon

عون – حزب الله ومعادلة المقايضة: تتركونني أترككم

  

 

تفاوتت تفسيرات المواقف الأخيرة للنائب جبران باسيل، مترجّحة بين التنديد والتبرير والصمت والتشفي. بيد أنها دلّت أكثر من ذي قبل على أزمة فعلية في تحالف الرئيس ميشال عون وحزب الله منذ 6 شباط 2006

 

ليست المرة الاولى تُطرح مآخذ متبادلة بين فريقي «تفاهم مار مخايل» وتحملهما – او احدهما على الاقل – على التحدث عن الحاجة الى مراجعة تحالفهما في ضوء تقويم المرحلتين السابقة بما رافقها، والحالية بما ينتظرها. كلاهما قالا مراراً ان تحالفهما اقوى من ثغره والشكوك التي باتت تحيط به. يعترفان ايضاً بأن وقائع الحاضر تجاوزت حاجات الماضي التي تطلبها واحدهما من الآخر. الا ان كلام رئيس كتلة لبنان القوي النائب جبران باسيل، الاحد الفائت، اظهر الى السطح للمرة الاولى أزمة ثقة جدّية ما بينهما. في النبرة كما في المخاطبة والمحتوى والاشارات المخفية. ما كانا يتبادلانه في السرّ وعلى نحو غير مباشر، وفي جولات التفاوض، خرج الى العلن، سواء كان المقصود المُخاطِب أم المُخاطَب.

 

بالتأكيد لا توحي ازمة الثقة هذه بانجرارهما الى تقويض «تفاهم مار مخايل»، والتنصل منه. غير انهما باتا الآن في حاجة اكثر الى تكييفه مع مرحلة جديدة، تختلف تماماً عما كان يدور بين عامي 2005 و2006: اعداء الماضي اصبحوا حلفاء اليوم، وحلفاء الحلفاء حينذاك صاروا خصوماً اقرب الى اعداء.

لعل الاهم ليس ما قيل الاحد فحسب، بل ما يُفترض ان يعني كل ما قيل، وهو ان صاحب المواقف تلك كان رئيس الجمهورية ميشال عون، وإن بلسان صهره رئيس الكتلة الأكبر في مجلس النواب. ما تحدّث عنه باسيل هو اللغة نفسها التي كان عون يطرقها قبل عام 2005 وبعده حتى عام 2008، كلما تناول موقع المسيحيين في السلطة والحكم. اضحت الآن مع باسيل تحمل عنوان «الحقوق المسيحية». لذا يصبح من الطبيعي الافتراض ان الكثير مما خاطب به باسيل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، هو ما رَامَ رئيس الجمهورية ان يقوله لحليفه.

ما بات في ماضي تحالف طرفي «التفاهم»، ان كليهما أتمّا تسديد ديون بعضهما بعضاً. وقف عون إلى جانب حزب الله في حرب تموز 2006، فردّ الحزب الجميل له بأن اضحى التيار الوطني الحر بدءاً من عام 2008 في صلب معادلة السلطة والحكم. لم يتردد ايضاً في الجهر بتعطيله انتخاب رئيس للجمهورية ما بين عامي 2014 و2016 ما لم يكن المرشح الفائز هو عون بالذات. ما بين هاتين المرحلتين، بلغ التيار اوجاً سياسياً غير مسبوق في انتخابات 2009، وصولاً الى انتخابات 2018، وفي الحكومات الاربع التي سبقت انتخاب عون رئيساً للجمهورية.

قد لا يكون صائباً القول ان حزب الله وحده أوصل عون الى رئاسة الجمهورية. الصائب انه جعله المرشح الذي لا تجرى انتخابات رئاسية من دونه، ولا يكتمل نصابها من غير ان يصبح هو الرئيس. لذا عطّل جلسات الانتخاب الـ45 المتتالية، وابقى – الى اصرار عون ايضاً – على حليفه مرشحاً رئاسياً فقط. الصائب كذلك ان انضمام الرئيس سعد الحريري الى حزب الله في تأييد عون اتمّ الاستحقاق، فافضى في نهاية المطاف الى انجاز مثلث الربح وضع قواعد التسوية: في مقابل عون رئيساً للجمهورية، يمضي الحريري الولاية كلها رئيساً للحكومة، فيما حزب الله يمثّل مرجعية استقرار الداخل دونما الخوض في اي من اسباب الخلاف معه، بما في ذلك سلاحه ودوره في النزاعات الاقليمية.

 

كلام باسيل الأحد يُخرج رئيس الجمهورية عن صمته

 

 

على نحو كهذا، اضحى لحزب الله حليفان موثوق بهما وضروريان لاستمرار الاستقرار، هما عون والحريري. لأنهما حليفاه، لم يكن في حاجة الى المفاضلة في ما بينهما. صحّ ذلك في ظل التسوية الرئاسية المعروفة، قبل ان يفترق رجلاها ويتبادلا بغضاً شخصياً غير مسبوق.

ما تحدّث عنه باسيل الاحد – رغم قوله انه آخر كلام فيها – يبدأ بمشكلة الحكومة المتعذّر تأليفها، ولا يقتصر عليها. ثم لا تلبث هذه ان تضع تحالفهما على المحك اذ تعود بهما الى البدايات: لم ينشأ «تفاهم مار مخايل» بسبب فائض القوة السياسية والشعبية لدى حزب الله، ولا بسبب امتلاكه السلاح، ولا ما ستبيّنه السنوات التالية بعد عام 2012 عندما تدخّل في الحروب الاقليمية في سوريا والعراق واليمن، بل رمى الى مساعدة التيار – في مقابل الغطاء المسيحي الذي يوفره لسلاح حزب الله كان الاخير يحتاج اليه – من اجل الدخول في السلطة. توخى «التفاهم» طيّ صفحة التحالف الرباعي عام 2005 مذ مُنع عون وتياره – الفائز بكتلة نيابية كبيرة حينذاك – من المشاركة في اولى حكومات انقسام البلاد ما بين قوى 8 و14 آذار. ذلك ما تحقق بالفعل منذ ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008 في استحقاقات الانتخابات النيابية، ثم الحكومات المتعاقبة. وهو فحوى ما دلّ عليه باسيل بتلميحه الى استمرار معادلة المقايضة: تغطية مسيحية في مقابل توازن مسيحي. بعبارة ابسط ليس فيها تهويل ولا تخويف ولا ابتزاز: تتركونني، اترككم.

ما لا يخفى عليه ايضاً – وهو يؤكد معادلة المقايضة – معطيان اثنان على الاقل صارا عقبة فعلية في طريق استمرار «التفاهم» في صيغته القديمة، بعدما انقلبت الادوار والمواقع رأساً على عقب:

– معرفته الوثيقة بالاولويات الثلاث المتتالية لحزب الله لا يتساهل حيالها: وحدة البيت الشيعي بينه وحركة امل، الاستقرار السنّي – الشيعي، وقوفه الى جانب رئيس الجمهورية. للاولويات الثلاث هذه اهمية متساوية، الا ان ترتيبها، على نحو ما هي عليه الآن، يخضع لتدرّج اخطارها. لم يعد يشعر التيار الوطني الحر، ولا حتماً عون وباسيل، بأن تحالفهما مع الحزب كما في لحظة ابرامه لا يزال يتقدّم الكثير من الاولويات. مكمن هذا الهاجس ان حزب الله انتقل من التحالفات العمودية العميقة الى التحالفات الافقية المسطحة.

– ليس خافياً تمسك حزب الله بالحريري الذي بات، في حال الوهن التي اضحى عليها، افضل الفرص الاستثنائية التي لا يسع الحزب اهدارها. لن يمنحه الحظ يوماً ما هو عليه في علاقته الآن بالرئيس المكلف، وقد لا يتوافر مع اي رئيس مكلف آخر: ان يكون على قطيعة نموذجية مع السعودية وممنوعاً من زيارتها، ويبدّد تدريجاً كل الثقل الاقليمي والدولي الذي اورثه اياه والده الراحل، ويكون مع ذلك الاول في طائفته يقنعها بمهادنة الحزب بذريعة المحافظة على الاستقرار السنّي – الشيعي في الشارع، ويُحجم عن الخوض في المشكلة الأم التي اشاعها قبل سنوات في تياره وشعبيته وهي سلاح الحزب ودوره في النزاعات الاقليمية وفي اغتيال والده، ويتحول حزب الله من خلال الرئيس نبيه برّي ملاذاً آمناً للرئيس المكلف كي يترأس الحكومة بلا منافس، ويعوّض خسارته حلفاءَه السابقين بالثنائي الشيعي المتشبث بتكليفه وبرفض السماح له بالاعتذار عن عدم تأليف الحكومة.

قلمّا ستسنح للحزب فرصة كهذه يوماً، تجعل الجميع يحتكم اليه ويحتمون به. في احسن الاحوال على نحو ما اضحى عليه العدوّان الجديدان الحريري وباسيل.