هي مواجهة جديدة تُضاف الى سجل المنازلات المتقطعة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. والقصة لا تتعلق فقط بالقضاء، بل هي بالدرجة الأولى قصة قدر يفرّق بينهما، منذ ان وضعتهما السياسة ثم السلطة في موقعين متنافرين.. ولكن أين «حزب الله» من نزاع حليفيه؟
غالب الظن، انّ الدخول في السنة الأخيرة من العهد سيمنح عون وبري فرصة التخلّي المتدرّج عن ضوابط كانت تنظّم خلافهما خلال السنوات الخمس التي مرّت من الولاية البرتقالية. إذ، ومع بدء العدّ التنازلي للولاية، لن يعود اي منهما مضطراً الى مسايرة الآخر زيادة عن اللزوم والتقيّد بـ«إتيكيت» العلاقات الرئاسية.
منذ اليوم الأول لانتخاب عون خلافاً لرأي بري، فرضت الضرورات والتوازنات تعايشاً قسرياً بين الرجلين، خرقته من حين الى آخر جولات «عنف سياسي»، بقيت تحت السيطرة الى حدّ ما، وكانت تليها هدنات او تسويات موضعية برعاية الحليف المشترك لكل منهما: «حزب الله».
الآن، وقد انهار كل شيء تقريباً وتبدّلت الحسابات والظروف، قرّر رئيسا الجمهورية والمجلس نزع القفازات واللعب على المكشوف، في دلالة على أنّ قواعد الاشتباك تغيّرت، بل انّ كلاهما بات يشعر بأنّ الآخر تغيّر أيضاً.
والأرجح، انّ كلا منهما يبدو في هذه اللحظة متصالحاً مع نفسه اكثر من اي وقت مضى، وهو يذهب في الخصومة الى البعيد ويطلق «عواطفه الصادقة» من القمقم الذي قبعت فيه طويلاً.
بالنسبة إلى عون، لم يعد هناك ما يضطره الى المهادنة على حساب قناعاته فيما الدولة التي يشكّل رأسها تتداعى من حوله. وبالنسبة إلى بري طفح الكيل ونفد الصبر وحان أوان «الانتفاضة» ووقف «المحاكمات الميدانية» من قِبل العهد وتيّاره.
وما يزيد الأمور تعقيداً هو انّ قدرة «حزب الله» على التوسط، كما كان يفعل سابقاً، باتت محدودة في مرحلة «انعدام الوزن» التي تفصل عن إجراء الانتخابات النيابية المرتقبة وانتهاء رحلة العهد، الأمر الذي من شأنه ان يترك الساحة مشرّعة على كل فنون الاشتباك السياسي والطائفي.
واللافت في «الموقعة الأخيرة» انّ عون استعان بالإمام علي بن أبي طالب في تغريدته التي جمعت بين حدّي «الشيفرة والشفرة»، واستدعت تعليقاً مضاداً من بري، تبعته رشقات متبادلة من الردود بين القصر الرئاسي وعين التينة، علماً انّ العارفين يوضحون انّه كان هناك في الأساس اتجاه نحو اعتماد اقتباس آخر من أقوال الإمام علي، غير انّه تقرّر العدول عنه تفادياً لأي تداعيات قد ترتبها دلالاته.
ومع ذلك، فإنّ طبيعة التغريدة التي اقتبستها بعبدا من نهج البلاغة للإمام علي، في معرض حماية القضاء، أوحت للوهلة الأولى بأنّها ترمي ليس فقط الى التصويب على بري وإنما إحراج «حزب الله» أيضاً.
وتضمنت تغريدة عون عبر حسابه الشخصي على «تويتر» الآتي: «الأبرياء لا يخافون القضاء. وكما قال الإمام علي: من وضع نفسه موضع التّهمة فلا يلومَنّ من أساء به الظن».
وإذا كان تفاقم خلاف عون – بري غير مفاجئ اصلاً ربطاً بالخط البياني المضطرب لعلاقتهما، فإنّ البعض يعتبر انّ العلامة الفارقة انما تكمن في احتمال ان تكون شظايا تغريدة رئيس الجمهورية قد أصابت الحزب واخترقت جسم التحالف بين الجانبين، وكأنّ هناك من يريد أن يوحي بأنّ معادلة مار مخايل انتهت رسمياً وخُتمت بالشمع الرئاسي الأحمر، فهل هذا الاستنتاج صحيح؟
تشدّد اوساط قريبة من عون على انّ تغريدته لم يُقصد منها اصلاً استفزاز بري، ومن باب أولى انّها لم تكن موجّهة الى الحزب، لافتة الى انّه لا يوجد اصلاً أي مشتبه فيه او مدّعى عليه من صفوف «حزب الله» في قضية انفجار المرفأ، وبالتالي فإنّ ما ورد في تغريدة بعبدا لا يعنيه، وإنما أُريدَ منه دق ناقوس الخطر إزاء ما يتعرّض له القضاء حالياً.
وتستبعد الاوساط ان يتضمن القرار الظني المتوقع اي إشارة الى الحزب الذي «لم يقلقه قرار ظني للمحكمة الدولية في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فلماذا يقلق من فرضية هزيلة بأن يوجّه اليه القضاء اتهاماً في ملف المرفأ؟».
وتؤكّد انّ التحالف بين عون والحزب ثابت ومستمر، على رغم المطبات المتفرقة التي يواجهها، مشيرين الى انّ التباينات حيال طريقة إدارة شؤون الدولة لن تفضي الى انهيار وثيقة التفاهم المرتكزة على أبعاد استراتيجية وحيوية لا تزال سارية المفعول، «وهذا هو خيار عون كما «حزب الله» الذي لن يفرّط في هذه اللحظة المفصلية، وفي عزّ الهجمة عليه، بواحد من أهم تحالفاته الداخلية المحورية».
ويلفت أصحاب هذا الرأي الى انّ لدى الحزب قناعاته وهواجسه في ما خصّ سلوك القاضي طارق البيطار، إضافة إلى أنّه متضامن ومتعاطف مع الرئيس بري في مواجهة الملاحقات التي تشمل قريبين منه، «ونحن نتفهم هذه الاعتبارات، الّا انّ الثنائي الشيعي مدعو الى ان يتفهم أيضاً انّ قاعدة فصل السلطات لا تسمح لمجلس الوزراء بإزاحة البيطار، إذ ليس هو الذي عيّنه محققاً عدلياً بل مجلس القضاء الأعلى، بناءً على اقتراح من وزيرة العدل السابقة، تبعاً للآلية المعتمدة، وبالتالي لا يجوز تعطيل الحكومة وتحميلها في هذا الملف ما يفوق طاقتها ودورها، فالمسألة عند «القضاء الأعلى» لأنّه المرجع المختص، وعلى السلطة التشريعية من جهتها ان تبادر وتتحمّل مسؤولياتها بدل تصدير المشكلة الى مجلس الوزراء وإلقاء تبعاتها عليه».
ولئن كان ملف البيطار يلقي بثقله على علاقة القصر – الضاحية، غير انّ الاوساط المؤيّدة لرئيس الجمهورية تلفت الى انّ الموقف الذي اتخذه من أزمة الغضب السعودي على لبنان يتقاطع مع مقاربة الحزب، كاشفة انّ عون كان صريحاً مع الامين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي خلال لقائه به، إذ أكّد امامه الحرص على بناء أفضل العلاقات مع السعودية، شارحاً له في الوقت نفسه انّ الازمة الحالية لا تُعالج بالإملاءات، في إشارة الى رفضه مبدأ فرض الاستقالة على وزير الإعلام جورج قرداحي.
وتوضح تلك الاوساط، انّ عون لن يعترض اذا قرّر قرداحي المبادرة الى الاستقالة من تلقاء نفسه، ولكنه لم يضغط عليه لدفعه اليها ولم يقبل بعقد جلسة لمجلس الوزراء من أجل إقالته تحت الضغط الخارجي، «انطلاقاً من انّ هذا الأمر هو سيادي بامتياز».