يصرّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على عدم التراجع. ملفّ الانتخابات نموذج لِما سيأتي على الأرجح. والواضح أنّ عون سيمضي في فصول «العناد» تكراراً، وفي كلّ الملفات، ما لم «يقتنع». فهل أمام المعترضين سوى أن «يتصبَّروا» و«يتدبَّروا» لتمرير ستّ سنوات… «عَدّاً ونقداً»؟
هل الاتّهامات التي بدأت تُوجَّهُ إلى عون بأنه يمارس السلطة بـ«Overdose» في محلّها؟
المواكبون لحركة عون يقولون: «الذين يوجّهون الاتهامات هم أنفسُهم في وضعية الـ«Over» على مستوى الزعامة والحجم والممارسة السياسية. فهؤلاء استغلّوا سنوات من النفوذ السوري وغياب القوى الحزبية المسيحية ليتمدَّدوا على حساب المسيحيين. وهم لم يتخلّوا عن هذه الممارسة وباتوا يَعتبرونها حقّاً لهم. وعلى الجميع أن يعود إلى حجمه الطبيعي وأن يأتي التمثيل عادلاً للجميع.
وكذلك، لم يكتفِ هؤلاء بما فعله «إتفاق الطائف» بصلاحيات رئيس الجمهورية، بل استغلّوا الضعفَ لتحويل الرئاسة مجرّد صورة لا دور لها، تتحكّم بها القوى السياسية النافذة. وإذا كان مفهوم تصحيح الخَلل يُعتبر «جرعة زائدة» فليكن. ولكن، ما يريده عون فعلاً هو العدالة في قانون الانتخاب وفي ممارسة الحكم.
لكنّ الذين يشتبكون مع عون، علناً (النائب وليد جنبلاط) أو مَن خلف الستارة (الرئيس سعد الحريري وآخرون)، يقولون كلاماً مشابهاً، ولكن من جهتهم: «نريد العدالة». إذاً، الواضح أنّ عمق المشكلة يَكمن في اختلاف المفاهيم: ما هو مفهوم كلّ طرف لهذه «العدالة»؟
مثلاً: بالنسبة إلى عون، اليوم هناك 64 نائباً مسيحياً في المجلس النيابي، يسمّي المسيحيون أقلَّ من نصفهم، فيما الآخرون يَصِلون إلى المجلس في قطار تقوده الطوائف الأخرى.
ولأنّ المناصفة الطائفية شرط أساسي في الدستور، لا يمكن الكلام على العدالة ما لم يتمكّن المسيحيون من انتخاب 64 نائباً، كما المسلمون. ولذلك، فـ«الأرثوذكسي» يبقى طرح عون المفضّل. وأيّ مشروع بديل يجب أن يقترب منه إلى حدّ بعيد.
أمّا العدالة في ممارسة الحكم، بالنسبة إلى عون، فتقتضي أن يمارس كلّ طرف ما له من صلاحيات في الحكم، فتتوقّف عملية اختصار المؤسسات برجل واحد. ولطالما رفعَ عون، في فترة خصومتِه مع الحريري، شعار: «لا لاختصار السراي برئيس الحكومة!».
هذا المفهوم «العوني» للعدالة، يخالفه جنبلاط. فبالنسبة إليه، التمثيل يكون عادلاً إذا حافظ هو على كتلة نيابية متنوّعة طائفياً، أي تضمّ مسيحيين في الدرجة الأولى، إضافةً إلى السنّي في إقليم الخروب. فهو «زعيم الجبل الجنوبي» لا «زعيم الدروز» فقط، و»تقزيم» زعامته لتقتصرَ على بضعة نواب دروز سيُنهي الدور الوازن الذي يضطلع به آل جنبلاط والدروز منذ قيام «دولة لبنان الكبير».
أكثر من ذلك، العدالة بالنسبة إلى جنبلاط تكون بعدم تشتيت الكتلة الدرزية. فهو يرفض النسبية، ولو ضمن الطائفة، لأنّها ستأتي حتماً بدرزي أو اثنين من خصومه إلى المجلس. فيكون له، بعد فقدان المسيحيين والسنّي ودرزيَين، عدد من النواب لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. عندئذٍ، ماذا يبقى من الزعامة الجنبلاطية؟
بالنسبة إلى جنبلاط، العدالة هي:
1 – أن يكون للدروز موقعهم المميَّز، أي ذلك الذي يناسب مكانتَهم كطائفة لها تاريخها في قيادة الجبل، طوال أجيال، وكطائفة مؤسِّسة للبنان الكبير، لا كأقلّية عددية.
2 – أن تتمّ مراعاة الزعامة الجنبلاطية في قيادة الطائفة، ولا يجري إضعافُها لمصلحة زعامات درزية رديفة. ويسأل جنبلاط: لماذا يُراد التنوّع في داخل الطائفة الدرزية فيما يَجهد آخرون لتكريس أحاديات وثنائيات في طوائفهم؟
وليس الرئيس سعد الحريري بعيداً عن المقاربة الجنبلاطية لمفهوم العدالة في التمثيل. فهو أيضاً يريد الحفاظ على صورة الحريرية السياسية كإطار متنوِّع طائفياً. هكذا أنشأها الرئيس رفيق الحريري وهكذا هي موروثة منه.
لذلك، يَحتقن الجوّ بين بعبدا و»بيت الوسط»، على رغم حِرص الطرفين على العلاقة الطبيعية. وهناك مَن يفكّر، للتوازن السنّي- الشيعي، في أنّ مقدار ممارسة رئيس الحكومة لصلاحياته في السراي الحكومي حيوي لإقامة التوازن مع رئيس المجلس النيابي في صلاحياته.
طبعاً، الفريق الشيعي هو أقلّ المنزعجين من النسبية التي يطرحها عون. أساساً هو مَن بادرَ إليها. وعلى الرغم من أنّها تقتطع عدداً قليلاً من النواب، المسيحيين خصوصاً، فهو مطمئنّ إلى أنّ أيّ تكبير لأحجام الكتل، سواء المسيحية أو السنّية أو الدرزية، سيأتي حُكْماً بحلفائه داخل الطوائف.
إذاً، القوى السياسية كلّها تمارس الـ»Overdose» من جهة، وتردُّ على ممارسة «Overdose» حاليّة أو سابقة من جهة مقابلة. والمسيحيون المعروفون بالتنوُّع تاريخياً تدفَعهم الأحاديات والثنائيات الطوائفية الأخرى إلى عدوى الاحتكارات التي ما مرَّ بها المسيحيون إلّا استثنائياً خلال الحرب الأهلية.
ولذلك، يبدو أنّ طرح عون يتيح التنوُّع بين الطوائف الكبرى والصغرى، ولكن هل يتيح التنوُّع داخل كلّ طائفة؟ وأمّا خصومه فلا يبدون متحمّسين لا لإنهاء استقواء طوائف على أخرى ولا لإنهاء استقوائهم كـ»زعامات كبرى» على «الزعامات الصغرى» داخل طوائفهم.
لو لم يطالب المسيحيون بحسنِ تمثيلهم الطوائفي لَما تذكَّرهم أحد، ولكان قانون الانتخاب قد مرَّ عليهم بمحادله و»بوسطاته» كما في كلّ مرّة بعد «إتفاق الطائف». وهنا يبدو الجانب المنطقي في الإصرار على تصحيح التمثيل الطوائفي.
ولكن، هل يتذكّر عون وخصومه في آنٍ معاً مخاطر «إقفال الطوائف» على التغيير؟ وهل يدركون باكراً أنّ تطويب الطوائف باسم زعامات من دون أخرى سيقود إلى نقمةٍ جديدة، عاجلاً أو آجلاً؟