مع ان الرئيس ميشال عون، كسائر القادة العرب المشاركين في القمة العربية في تونس، وافق على بيانها الختامي بلا ادنى تحفظ، الا ان كلمته بدت في مقلب آخر من البيان، كما ممن سبقه او تلاه
يصير الى الاعداد للبيان الختامي للقمة العربية في اجتماع وزراء الخارجية عشية افتتاحها رسمياً اعمالها. يصير ايضاً سلفاً الى الموافقة على فقراته ما خلا تعديلات قليلة نادرة احياناً. من ذلك لا صلة البتة للبيان الختامي بكلمات القادة العرب او ممثليهم. في الغالب يُستمد او يُستعار او يستنسخ حتى بيان قمة آذار من بيان قمة آذار السابق. بيد ان كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون كانت مختلفة تماماً.
في معظم الملفات التي قاربها البيان الختامي الاحد المنصرم، سواء المرتبطة بنزاعات داخل الدول العربية، او في ما بينها، او اشتباكها مع سواها وجيرانها والاقليم من خارج فلكها، او في مسائل مبدئية قاعدية، كانت للرئيس اللبناني وجهة نظر مغايرة، وأحياناً مناقضة.
في أبرز ما تناوله البيان الختامي، تأكيد تمسكه بـ«الشرعية الدولية» وقراراتها والاحتكام اليها لحل النزاعات الاقليمية، في سوريا واليمن ولبنان وليبيا والقضية الفلسطينية، والموقف الاميركي من القدس ثم من الجولان، وصولاً الى التمسك بالمبادرة العربية للسلام المنبثقة من قمة بيروت عام 2002. بيد ان كلمة لبنان طرحت اكثر من علامة استفهام عن جدوى التسليم بالشرعية الدولية والدور المنوط بها، في حضور الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش والممثلة العليا للسياسة الخارجية والامن في الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني: عندما تطرّق رئيس الجمهورية الى «ضرب المواثيق الدولية والحقوق»، والى «طعن الشرعية الدولية التي ترعى الحدود بين الدول التي اعترفت بها الامم المتحدة»، وتساءل عن مصير المبادرة العربية للسلام بعد اعلاني القدس والجولان و«ضياع الارض»، وسبل مقدرة مجلس الامن على «حماية حق سوريا ولبنان في اراضيهما المحتلة».
قارب، ايضاً، المسألة السورية على نحو مغاير للقادة العرب الذين قصروا كلامهم – كما البيان الختامي تأكيداً اضافياً – على تحقيق الانتقال السياسي للحرب السورية وفق مسار جنيف والقرارات الدولية التي يرعاها، آخذين في الحسبان ان مساراً كهذا قد لا يلحظ مكاناً للرئيس بشار الاسد على رأس نظامه. الا ان الرئيس اللبناني ذهب بعيداً في موقفه. ما خلا نظيره التونسي، كان الوحيد يطالب بعودة سوريا – والمقصود نظامها الحالي – الى مقعدها في الجامعة العربية، متحدثاً عن عودة الاستقرار والامن الى اراضيها، في اشارة واضحة الى ثبات نظامها واستمراره.
اسهب في الكلام عن تداعيات النزوح السوري على لبنان واعبائه، مخاطباً بها غوتيريش وموغيريني بإيراده فحوى تناقض موقفي لبنان والمجتمع الدولي من معالجة هذه الازمة، والترتيب المتباين للاولويات بين الحل السياسي للحرب السورية ومعالجة ازمة النزوح الناجمة عنها التي – بحسب عون – لا تفترض بالضرورة ان تلي الحل السياسي، او تتزامن مع اعمار البلاد. كرّس عون في كلمته، في حضور المسؤولين الامميين، الانقسام الحاد بين وجهتي النظر اللبنانية والدولية حيال مفهومي «العودة الآمنة» التي يقول بها، و«العودة الطوعية» التي يصران عليها. هو سبب اضافي اظهر فارقاً لافتاً بين هموم لبنان وتلك التي تقاربها دول القمة.
في كثير مما قاله رئيس الجمهورية في تونس، سبق ان أتى على ذكره في قمتي عمّان عام 2017 والرياض عام 2018، ما خلا تفاقم تداعيات النزوح السوري والتطورات المستجدة عن القمة الاخيرة. ليس ذلك اول تمايز ديبلوماسي لافت يبرزه لبنان، في قمة عربية، عن ديبلوماسية نظرائه العرب. في ما مضى، ابان قمة بيروت في آذار 2002، منع رئيسها، الرئيس اميل لحود، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من التحدّث اليها من مقر اقامته في الضفة الغربية عبر التلفزيون، في خضم نزاع حاد بينه وبين الاسد الحاضر في القمة، في اول زيارة لرئيس سوري للبنان منذ عام 1975. ما حدث حينذاك شكّل سابقة مسلكية أقدم عليها رئيس دولة عربية بمنعه رئيس دولة عربية اخرى من حق الكلام والظهور.
عني لبنان بالقمة ما أسمعها اياه لا ما تضمّنه البيان الختامي
كلمة عون في قمة تونس شكّلت بدورها سابقة في مضمون ما تناولته، بافتراقها – تقريباً – عن الاجماع العربي. مع ذلك وافق على البيان الختامي. ما بدا ان الرئيس اللبناني عني به، ليس البيان المستعار او المستوحى او المستنسخ، بل ما اراد ايصاله هو الى شركائه في القمة.
مع ان بعض غلاة معارضي عون وجدوا كلمته اقرب الى اعتراف صريح بانتقال لبنان من محور الى آخر، عززته اشادة حزب الله البارحة بمضمون خطابه. في المقابل التزم رئيس الحكومة سعد الحريري، الشريك الثالث في التسوية السياسية، الصمت التام. واقع الامر ان ما قاله الرئيس ليس سوى تكريس جديد واضافي لديبلوماسية اعتمدها العهد منذ مطلع الولاية الحالية، يقودها رئيس الجمهورية اكثر منه رئيس الحكومة او مجلس الوزراء. لعل اسطع ما في هذه الديبلوماسية، ان الرجل رئيساً للجمهورية يقول ما سبقه اليه الرجل نفسه زعيماً سياسياً مسيحياً. بل بات اكثر تشدّداً.
ما سمعته قمة تونس هو احد مظاهر هذه الديبلوماسية التي لا تقفل – شأن الآخرين – الابواب دون سوريا وايران. سمع ذلك قبل ايام، في 22 آذار، وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو من الرئيس اللبناني ومن نظيره الوزير جبران باسيل حيال الموقف من حزب الله ومن العودة الآمنة للنازحين السوريين. هو ايضاً وايضاً ما قاله عون في موسكو في 25 آذار امام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما شكر له مساعدته الاقليات المسيحية في سوريا، وأيّده في المبادرة الروسية ومجاراة دور موسكو في سوريا والموقف الايجابي من ايران.
ليس في بيان قادة قمة تونس شيء من ذلك.