أن تُكرِه السعوديّة رئيس حكومة لبنان على الاستقالة مِن منصبه، وهو على أرضها، فهذا حدث تاريخي بامتياز. سيذكر اللبنانيّون، والعالم، ما حصل لسعد الحريري مديداً. ستُصبح الحادثة «قفشة» في كلاسيكيّات السياسة. كانت الأيّام القليلة الماضية حافلة بالمواقف التاريخيّة. مِن أهمّها، إن لم يكن أهمّها، كلام رئيس الجمهوريّة ميشال عون لوفد الهيئات الاقتصاديّة.
أحد أعضاء الوفد ينقل للرئيس مخاوفه مِن إقدام السعوديّة على ترحيل مستثمرين لبنانيين، وهذا ابتزاز (سعودي) تاريخي، إضافة إلى قلقه مِن احتمال إقفال حدودها أمام الصادرات التجاريّة. يُجيبه عون: «لا يمكن التنازل عن كرامة لبنان وقيمته، لا بسبب الضغوط على الليرة ولا بسبب المخاوف المثارة مِن عمليات ترحيل أو قطع حدود. نحن لا نقبل أن نُعامل بهذه الطريقة». للأسف، اللقاء لم يكن مصوّراً بالفيديو، وبالتالي فاتتنا لحظة استثنائيّة لوجوه تعلوها دهشة استثنائيّة. ذهب عون أبعد مِن ذلك، أدهش أكثر، إذ تابع: «ننوجع يوم على أن ننوجع كلّ يوم… روحوا فتّشوا على أسواق جديدة». هذا كلام لا يُقال دائماً في لبنان، بل، ربّما، لم يقله مسؤول لبناني سابقاً. تلك الكلمات تستحق أن تُحفظ غيباً. مِن بركات الأزمة التي افتعلتها السعوديّة في لبنان أن يخرج موقف كهذا. سيحتاج اللبنانيّون إليه لاحقاً، يسترجعونه كاجتهاد سابق، ثمّ (بجهد المتابعين) يُصبح عُرفاً… والعرف في القانون أحد مصادر التشريع، وهو، في بلادنا تحديداً، بمثابة «الدستور المُضمَر».
ذات يوم، في النصف الأوّل مِن القرن الماضي، وصل الخلاف إلى أشدّه بين إميل إدّه وبشارة الخوري. أصبح الثاني رئيساً للجمهوريّة. أحد أسباب الخلاف، كما يرى كمال صليبي (في تاريخه)، هو المسألة الاقتصاديّة. كان إدّه يعكس في تفكيره «وجهة النظر المارونيّة» التقليديّة آنذاك. أعلن صراحة تخوّفه مِن خطر العروبة على لبنان. أمّا الخوري، فكان «أكثر واقعيّة مِنه». الحديث هنا عن الواقعيّة النفعيّة. وعى أهميّة الوجود الإسلامي في لبنان وما يفرضه هذا الوجود مِن ضرورة التسويّة. الخوري، بحسب صليبي، كان يعكس تفكير ميشال شيحا، وغيره مِن كبار رجال الأعمال المسيحيين في بيروت، الذين «رأوا في البلاد العربيّة المجال الطبيعي لنشاطهم الاقتصادي، فأصرّوا على ضرورة توثيق العلاقات معها، مع الإبقاء على تحفّظهم تجاه فكرة الوحدة العربيّة». يتّفق المؤرّخ في قراءته هذه مع ألبرت حوراني، الذي سبقه إليها، في عمله «لبنان مِن الإقطاعيّة إلى الدولة الحديثة ــ 1966». مِن هنا نفهم تاريخيّة موقف ميشال عون الأخير وجذريّته، إزاء الراسخ لبنانيّاً، أقلّه كسِمة ثقافيّة. بالتأكيد، لا يُمكن حمل موقف عون على أنّه ثورة شاملة، فلبنان ما زال هو لبنان، بمحدوديّة اقتصاده وقلّة الخيارات المتاحة، فضلاً عن التنوّع الحاد في ميول مكوّناته البشريّة، وبالتالي لا يُتوقّع مِن «كبار المُستثمرين» المضي بذلك عن طيب خاطر. لكن هذا، تحديداً، يزيد مِن تظهير شجاعة عون في موقفه، الذي يذهب إلى حد «الفدائيّة». يصعب على الحرّ أن يركن إلى الابتزاز (خاصة عندما يأتي بأسفل صوره). هذا يقتله. هذا عنده ليس «مِن طبيعة الأشياء» (عكس اللازمة الشهيرة لشيحا).
ميشال عون، وعلى أكثر مِن فهم، ليس شيحاويّاً. شيحا، وهو المنظور إليه كأب للدستور اللبناني، بل كفيلسوف للكيان، كان يقول: «لبنان عندما يرتهن يعتز وعندما يستقل يهتز». عون ليس مِن هذا الصنف. سواء عند مَن يتفق معه أو يختلف، سابقاً أو راهناً، يصعب إنكار أنّه وقف ذات يوم وحده في وجه العالم، وقد دفع الثمن، وفي قناعته أنّه يفعل ذلك مِن أجل أن يستقل لبنان… فيعتز. شيحا يقول: «يجب عدم تخويف رأس المال». عون، أيضاً، لا يُحبّ تخويف رأس المال، ولهذا يقول: «لا نفضّل أن يحصل هذا الأمر». لكن، حيال ما يراه مسّاً بالكرامة الوطنيّة، فسيقول: «فتِّشوا عن أسواق جديدة». في الذكرى التاسعة لاستقلال لبنان، كتب شيحا منظّراً، أو بالأحرى مُبرّراً: «في ما يتعدى الاستقلالات، توجد التبعيّات في الطبيعة، ومثالنا على ذلك: طبيعة الأشياء. هي تبعيّات لا يفلت منها أيّ تجمّع بشري». أمّا عون، وفي الذكرى الرابعة والسبعين للاستقلال، سيقول: «الوطن الذي حرّر أرضه مِن العدو الإسرائيلي والتكفيري ليس وطناً تسهل استباحته… الاستقلال هو عمل دؤوب ونضال متواصل لشعب دفع الكثير ولمّا يزل، ليبقى سيّداً، حرّ القرار، وعلى أرض حرّة». قد تبدو المقارنة مجحفة بين الرجلين. عون لا يُقدّم نفسه كفيلسوف، أو حتّى كمثقف نخبوي، وهو قطعاً ليس غيفارا، إنّما ما نفع الفلسفة إن لم تكن ستجعل الحياة أفضل؟ النتائج تحكي والمآلات.
لم يكن ميشال شيحا مجرّد شخص. مذ كان وبعد رحيله هو «فكرة». هو «وعي» لبناني. أسلوب حياة تبنّاه كثيرون في لبنان مِن مسيحيين ومسلمين. تنبّه فوّاز طرابلسي (في «صلات بلا وصل») إلى «بهلوانيّة» شيحا قديماً تجاه العرب (والسعوديّة خصوصاً). كان مِن دعاة «الشرق الأدنى» حضاريّاً. بتحديد أدق: «المتوسطيّة». كان شرساً في دعوته هذه. لم يكن مغرماً بالعرب (وهذا تعبير ملطّف). فجأة، عندما قرّرت أميركا توسيع الدائرة بـ«شرق أوسط» يشمل السعوديّة، راح يُنظّر لذلك. يقرأ طرابلسي ذلك بهذه الكلمات: «ما عدا مِمّا بدا؟ ينضح الجواب برائحة النفط أكثر مِمّا ينضح بيُود البحر الأبيض المتوسّط!». هكذا، هو النفط، أسّ مَقاتِلِنا وليس آخر اللعنات.