ربما الخطأ الاكبر الذي وقع فيه ميشال عون هو اقتناعه بأن سمير مقبل، ومن يقف وراء وزير الدفاع، انتظروا عتمة ليل الاربعاء، لـ «يسهّلوا مرور» تأجيل التسريح الثاني خلسة وخشية من الانفضاح، على «ضوء» ما قيل عن مبادرات حلحلة قد تكسر الشرّ المقبل على تركيبة حكومية تتنفّس خلافات أكثر منها قرارات مجدية.
من كان يترقّب بشيء من المرارة وصول «الجنرال» الى ما وصل اليه من نكسات، يجزم بأن خطأه الاكبر كان معاندة تيار سائد لا يخجل بالمجاهرة بأن القانون والدستور وانتخاب الرئيس القوي والاستحقاق النيابي الملزم ومعنويات ضباط المؤسسة العسكرية والامنية والتداول الطبيعي في المواقع… كل ذلك لم يكن له مكان على خريطة الترتيبات اللبنانية المواكبة للتغييرات في المنطقة برعاية مباشرة من الخارج الحريص على الاكتفاء بـ «عدّة الشغل» القائمة.
خطأ عون الافظع، برأي هؤلاء، هو انه فعلها مع علمه بأنه وحده في الميدان. دعم «حزب الله» تحصيل حاصل لكنه لم يكن كافيا لاستنساخ 7 ايار جديد عنوانه هذه المرّة الحقوق المسيحية. يضيف هذا الفريق: «كان كل شيء واضحاً. المشكلة ان ميشال عون لم يكن يرى… وسوء التحليل قاده حتّى الى التصديق بأن الرئيس سعد الحريري قادر على تسليفه رئاسة وتعيينات وقانون انتخاب، في عزّ التطاحن السعودي ـ الايراني!».
ما يراه اليوم «تيار المستقبل» والقوى المسيحية في مقلب «14 آذار» والرئيس نبيه بري أنه «عين العقل» بتأجيل تسريح فرضته «الظروف»، يُقابل بممانعة حديدية من ميشال عون.
لم يعد في دارة «الجنرال» من ستر مغطّى. الامور تقال كما هي. ليس بالضرورة أن تحصل الاغتيالات السياسية بأطنان من المواد المتفجّرة الموضّبة في شاحنة.. الاغتيالات الاكثر إيلاما تلك التي تحصل في العلن، وبتواطؤ مريب بين الحليف والخصم!
لكن، على وقع الغضب العوني، سيقدّر لحكومة تمام سلام ان تعمل بشقّ النفس حتى تقضي التسوية أمرا كان مفعولا. السؤال الابرز بعد «مهرجان التمديد»: هل ستقدم الحكومة على الانعقاد وكأن شيئا لم يكن، منطلقة من ان تجاوز وزراء عون إشكالية «الآلية» في الجلسة الماضية يجعل منها بندا على الرفّ ويمهّد لاتخاذ قرارات جديدة؟
بالتأكيد ان تأخير عون لخيار الشارع بات مرتبطاً حكما بمهلة السماح التي لا يزال يمنحها لمن تبرّع بالعمل على تسوية موقتّة تجنّب الحكومة الانفجار، فيما تساءل خصوم عون عمّا إذا كان وزراء «التكتل» سيشاركون مجددا في جلسات حكومة وصفها عون نفسه بـ «حكومة النفايات».
مصادر وزارية تؤكد في هذا السياق «ان وتيرة الانتاج الحكومي، ولو بالحدّ الادنى، ستستأنف عاجلا أم آجلا. كل التركيز ينصبّ على هذه المسألة، فيما إعادة فتح أبواب مجلس النواب تبدو مهمة أصعب بكثير».
بند التعيينات حكما صار وراء الجميع ولن يعاد فتحه إلا بعد عام، هذا إذا لم يطرأ اي تطوّر خارجي يمكن ان يكسر حالة المراوحة السياسية ويقود ربما الى فتح باب الحديث برئاسة الجمهورية، مع قناعة المعنيين بأن «إبرة تخدير» قانون تعديل قانون الدفاع ربما يكون انتهى مفعولها.
وهنا يكمن كل الموضوع. فإذا كان الوسطاء لم يستسلموا بعد في ترميم ما يمكن ترميمه على خط عون ـ بري وعون ـ تيار «المستقبل»، فإن التصعيد، العلني هذه المرّة، على خط الرابية ـ اليرزة (مكتب قائد الجيش) لن يكون بمقدور أحد على ما يبدو التخفيف من وهجه، وهو سيتّخذ طابعين: الاول آني والثاني في المدى القريب.
على الخط الاول، اي نزول الى الشارع من جانب «البرتقاليين»، سيسارع الفريق المناهض الى تصويره وكأنه ضد مؤسّسة الجيش وليس الشخص فقط، وهي نقطة الضعف الوحيدة في التحرّك العوني.
فبالرغم من التأكيد الدائم على سلمية التحرّك سابقا والآن، ومشروعية المطالب التي ينادي بها «التيار»، فإن التماهي بين قيادة الجيش وغالبية القوى السياسية حيال «الانزال» العوني في الشارع كفيل بتشويه مضمونه حتى قبل أن يبدأ: قيادة الجيش تصرّفت منذ البداية، وحتى اليوم، على أساس ان التظاهرات العونية يمكن بأي لحظة ان تستهدف مقرّات رسمية بينها السرايا. أما خصوم عون فلديهم لائحة مآخذ لا تنتهي عن جدوى التحرك وأهدافه وتوقيته الى درجة اعتباره فعل انتحار سياسي و «كباش» غير مفهوم مع المؤسسة العسكرية.
من جهة اليرزة، يعمّم قهوجي في مجالسه كافة بأن «الجيشَ وأنا واحدٌ، وأيُّ هجومٍ عليَّ هو هجومٌ واستهدافٌ لكل عسكري وضابط». من جهة عون المعادلة أوضح «أفعل كل هذا حماية للجيش وضباطه وعناصره».
وبالتأكيد فإن ما قيل على منبر الرابية بعد الاجتماع الاستثنائي لـ «تكتل التغيير والاصلاح»، يشكّل تجاوزا لكلاسيكيات الصراع الصامت بين عون وقهوجي، وإعلانا لمواجهة صارت علنية بين «الجنرالين».
خاطب قائد الجيش بالاسم، لأول مرة، قائلا له: «إياك يا جان قهوجي ان تنزل الجيش بمواجهتنا»، عارضا الخطوط الحمر التي يمنع على الجيش «الوطني» تجاوزها: الدفاع عن النظام بالقوة (خصوصا إذا اصبحت الدولة كلها بوضع غير شرعي وقياداتها غير شرعية)، وضع الجيش بمواجهة تظاهرة سلمية في تكرار للمأزق السابق (مواجهة 9 تموز).
في الوقت عينه، حدّد عون لقهوجي ما يجب أن يفعله: النزول بوجه من يقفل الطرقات «ويعمل المشاكل»، وما قصّر في فعله: «ترك باب التبانة وجبل محسن لاربع سنوات تتفرج على تقاتلهم، ترك عرسال سكة لتهريب السلاح، ترك وادي خالد وطرابلس. رفض إقامة منطقة عسكرية على الحدود. جالس تحت غطاء حكومة لا تعطيك أوامر».
وبلغ خطاب عون ذروته باتهام قهوجي «بإنزال الجيش بوجه تظاهرة تعبّر عن انقلاب يتمّ على رواق وانت جزء منه بتسييسك للجيش عبر وضعه في خدمة السياسيين بطريقة غير شرعية».
على الخط الثاني بدأت غرفة عمليات الرابية تصوّب على احتمالات التعامل مع قهوجي كمرشح رئاسي على ضوء ما بدأ يتسرّب بأن تمديد العام الواحد هو مقدّمة لذلك.
وألف باء هذه المقاربة التركيز على المخالفة الدستورية التي قد تشكّل استنساخا للمخالفة الدستورية التي طبعت انتخاب ميشال سليمان عام 2008 حين لم يتمّ تعديل نص المادة 49 من الدستور (التي تحظّر انتخاب موظفي الفئة الاولى طوال مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعليا عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد). مع العلم ان فتوى الرئيس نبيه بري يومها قامت على أساس الاخذ بنظرية أنه بعد انتهاء ولاية الرئيس يتمّ الركون الى نص المادة 73 التي تُسقِط جميع المهل.