حين يجمّلون لك دور «صانع الملك»، تكون الرسالة واضحة: إنهم لا يريدونك ملكاً. سيقولون إنك الأكثر أهلية واستحقاقاً ثم يتذرّعون بالظروف والموازين. وحين يقولون لك إن التاريخ أهم من الجغرافيا فهذا يعني أنهم لا يريدون رؤيتك في قصر بعبدا. وحين يتشاطرون بالقول إن الزعامة أهم من الألقاب فهذا يعني أن عليك التعايش مع لقب دولة الرئيس وأنّ لقب فخامة الرئيس سيفرّ مجدداً من بين أصابعك. ما أصعب أن تُطالِب حالماً بالرئاسة بأن يكتفي بدور القابلة القانونية في صناعة الرئيس.
يخطئ الذين يختصرون الجنرال ميشال عون في صورة زعيم شعبوي تدفعه انفعالاته أحياناً إلى هفوات من العيار الثقيل. إنه أكثر من ذلك وأبعد. قدرته على قراءة الرياح ليست متواضعة. لكنه، وعلى عادة أبناء الثياب الزيتونية، يبالغ في قدرته على اعتراض الرياح وتغيير مساراتها. ليس بسيطاً على الإطلاق، ولا يمكن اتهامه بطيبة القلب. تتفحص عيناه زائريه وتلازمه الشكوك حتى في بعض من يمشون إليه على جباههم.
يلتقط الإشارات وإن تظاهر بالعكس. ويكاد يعتقد بأن لا أحد تقريباً يريده رئيساً. يعرف في قرارة نفسه أنه رجل متعب لخصومه وحلفائه. يحدس بمقاصد من يقولون إن تياره صار من الثوابت في المجلس والحكومة، وإن صهره «ممتاز»، وابن شقيقته «جيد». إنهم يبدون استعدادهم لإغراقه بالهدايا شرط أن يقدم هديته. أي خروجه من سباق الرئاسة لطي صفحة الجمهورية المقطوعة الرأس.
في الليل، يغادر المخلصون والمنافقون معاً. يبقى وحيداً. يشعر بظلم فادح. لماذا تتكاثر الألغام والعقبات والاعتراضات حين يتعلّق الأمر به شخصياً؟ لماذا أعطوا القصر تسع سنوات لرجل اسمه العماد إميل لحود وأنا أكثر شعبية منه في منطقته وبلدته؟ ولماذا أعطوا القصر لرجل اسمه العماد ميشال سليمان وأنا أكثر شعبية منه في منطقته وبلدته؟
يتمشى في الليل. لم يبخل الموارنة عليه. أعطوه أكثر مما أعطوا كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده. أطلق حربين خاسرتين، وحين عاد من المنفى طوّبوه زعيماً وبشعبية فاقت شعبية معلّمه بشير الجميل. أيّده كثيرون، وسبحوا معه إلى الضفة الأخرى، وقاموس الممانعة، وتحالف الأقليات. وحين أطل «داعش» سارعوا إلى القول: «الجنرال يرى بعيداً، الجنرال دائماً على حق».
كان يمكن أن يكون في القصر الآن لو تموضع قبل سنوات بشكل أكثر ذكاء وأرحب صدراً ومن دون تغيير تحالفاته. ولو لم يستمع إلى بعض زائريه من السحرة القدامى الذين هرمت براعاتهم ولم ينسَ الناس إطلالاتهم في مسرح الدمى. كان يمكن أن يكون لو بكّر في طرد مستشاريه.
تنهال عليه النصائح. استفد من تجربة الأكراد. كان بين جلال طالباني ومسعود بارزاني نهر من الحقد والدم. عند المنعطف انصاعا لمصلحة الأكراد. وفي ساعة القطاف اتفقا: هذا لرئاسة الجمهورية وذاك لرئاسة الإقليم. لو أبرم صفقة في السياسة والأحجام مع سمير جعجع لسقطت الرئاسة في يده. صحيح أن التفاهم مع جعجع يشبه تناول كأس السم لكن الصحيح أيضاً أن رفض هذه الكأس قد يكون أخطر من تناولها.
لم يستوقفه الدرس الكردي. وقد يكون أُعجب بنجاح نوري المالكي الذي حوّل نفسه، وعلى مدى سنوات، حاجة إيرانية وأميركية في الوقت ذاته. اليوم يشجعونه على التبصّر في درس المالكي. عاند وعاند وعاند ثم غلبته الرياح الداخلية والخارجية. تجرّع دور «صانع الملك» فولدت حكومة حيدر العبادي.
يحب ميشال عون قلب الطاولة. هل يرد على حوار «حزب الله» و «المستقبل» بالعودة إلى التفكير في الحل الكردي كي لا يواجه في النهاية ما واجهه المالكي؟ ما أصعب أن تطالب حالماً بالمُلك بالاكتفاء بدور «صانع الملك» حتى ولو بالغتَ في الهدايا لأقاربه وللمقيمين تحت جناحيه.