كلّما شاهدتَ إطلالةَ «الزعيم» في لبنان، يفاجئُكَ استقبالُه بالمعزوفة الموتورة الرائجة: «اللـه ولبنان وأنت وبَـسْ».
أمّـا الرؤساء، فيكون استقبالهم رسميّاً بمعزوفة النشيد الوطني «وبَـسْ».
الرئيس ميشال عـون بـاتَ يستهويهِ ما جـاء في «نشيد الأناشيد» ليطوفَ مع أهـل المدينة في الأسواق وفي الشوارع»(1)، حتى إذا سمعتَهُ متحدّثاً، أو قرأتَ لـهُ مقابلةً في صحيفة، يُخيَّلُ إليكَ أنّـك تسمع ناشطاً من المجتمع المدني، أوْ ثائراً من ثـوّار السابع عشر من تشرين، يقدحُ لسانُـه شـرَراً ضـّد عيوبِ الحكم وأهله.
في شتّى مقابلاته الأخيرة لا تـرى فخامة الرئيس إلاَّ ساخطاً يشـنّ الحملات شعواءً على الفساد والمفسدين، والسياسة والسياسيين، والذين تورّطوا في النهْبِ وسرقة أموال الشعب، وأوقعوا البلاد في مهاوي الأخطار والدمار، فكأنك هُنا أيضاً تسمع الجنرال الذي كان متمرّداً في «الرابية»، لا الجنرال الرئيس الذي أصبح في قصر بعبدا.
في إحدى فصول الرسائل الرئاسية الأخيرة، توقَّفتُ عند المقابلة التي أجراها الصحافي عماد مرمـل في جريدة الجمهورية مع الرئيس في الثالث من شباط الجاري، وأوّل ما لفَتني فيها قولُه: «أنـا منحازٌ إلى جانب المتعبين من المواطنين، وإذا وجدتَني أبتسم في بعض الأوقات فأكون كالطير الذي يرقصُ مذبوحاً من الألـم، ومن المبكي ما يضحك»..
وهذا، يذكّرنا بقول الأخطل الصغير:
يَبْكي ويَضْحكُ لا حـزْناً ولا فرَحاً كعاشقٍ خـطَّ سطراً في الهوى ومَحَـا.
ليس من العيب أنْ يبكي الكبار، الملوك أيضاً يبكون، مثلما راح أبو عبداللـه آخـر ملـوك العرب في الأندلس يبكي عل التاج المضيّع عندما سلّمـه إلى الملك فرديناند وزوجته إيزابيل.
من حـقّ الرئيس أنْ يبكي، ومِـنْ حقّنا أنْ نبكي معه، على الوطن العظيم الذي أصبح رميماً، وعلى الشعب العظيم الذي أصبح يتيماً، هكذا المسيح أيضاً بكى على أورشليم «يا قاتلةَ الأنبياء كـم مـرة أردتُ أنْ أجمع أولادك… هوذا بيتكم يُتـركُ لكم خراباً»(2).
وفي المقابلة الصحافية يتابع الرئيس: «إنّ وثيقـة التفاهم مع حزب الله بالرغم من بعض التباينات في ما يتعلق بإصلاح الدولة إلاّ أنها كانت صمّام أمـانٍ ضـدّ الحرب الأهلية…»
كنّا نسلّم مع فخامته لو لـمْ نكن نعاني أخطر حـرب أهلية أشـدّ فتكاً من حروب الميليشيات، تنقضّ علينا فيها جيوشُ الجـوع و«مافيا» الفقـر وجحافل الوجـع وقراصنة الـذلّ، فإذا البلاد كـلُّ ما عليها فـانٍ، وكـلُّ مَـنْ عليها أحياءٌ عند ربّهم ولا يُرزقون.
الكثيرون يتساءلون عما إذا كان «لصاحب الشخصية الصلبة، الفولاذي جبران باسيل – كما يصفـه الرئيس – يـدٌ فولاذيّةٌ في الهجوم الرئاسي العنيف على بعض القيادات ورؤساء الأحزاب، فيما يقتضي أنْ تكون رئاسة الجمهورية منزّهة عن النزاعات الشخصية لتجمع مَـنْ تفـرّق وتقرّب مَـنْ نفَـرَ وتحتوي من يخاصم، بـلْ في بلـدٍ مُفْرطٍ في التشابك كلبنان، من شأن الرئيس أن يحكم بموجب دستورين: دستور النظام ودستور الإستيعاب.
هكذا تصرّف الرئيس بشارة الخوري عندما استقال شقيقه السلطان سليم من النيابة احتجاجاً على توزير كميل شمعون فقال لـه: إذا أردتَ أن تتخلص من خصمك صالحْـهُ..»(3).
في مقابلة سابقة مع الرئيس عـون، لجريدة الجمهورية بتاريخ: 29/3/2021 قال: «أنا أريد بعد رحيلي أنْ يبكي الناس عليّ وليس على لبنان..»
أطـال اللـه عمر الرئيس، أما عن لبنان فنقول بلسان أبي العلاء المعري:
ضحِكْنا وكانَ الضحكُ مناَّ سفاهةً وحـقٌ لأبناءِ البسيطة أنْ يبكوا.
1 – نشيد الأناشيد الإصحاح الثالث: 3 – 2.
2 – لوقا: 34 – 35.
3 – بشارة الخوري فارس الموارنة – الجزء الثاني: وليد عوض ص: 24.