يعرف الجميع أنّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، إذا وُلِدت، ستكون آخر الحكومات في عهد الرئيس ميشال عون، وهي لن تدير «نهايات» العهد الحالي بل أيضاً سيكون لها دور في تحديد مَن سيدير «بدايات» العهد المقبل. وثمّة من يذهب إلى القول إنها لن تشرف ربما على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، بل ستشرف على انتهاء «هذه» الجمهورية. ولذلك، ليس مستغرباً أن يكون «الكباش» الحالي هو قصة حياة أو موت لعون وميقاتي وقوى السلطة كلها.
في كواليس قوى السلطة يدور همسٌ كثير حول هامش المناورة المتاح أمام ميقاتي، في معركة التأليف بعد التكليف. والرأي الغالب هو أنّ ما فعله عون ورئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل مع الحريري، على مدى 9 أشهر، لن يستطيعا فعله مع ميقاتي. وهناك دلائل إلى ذلك:
1 – انّ «حزب الله» تَقصَّد منح الرجل صوتَه في التكليف، في رسالة واضحة إلى الذين يعنيهم الأمر.
2 – انّ المسافة الزمنية الفاصلة بين طرح اسم ميقاتي وتكليفه ومباشرته بمحاولات التأليف لم تتجاوز الأسبوع، ما يعني أن هناك «كلمة سرّ» خارجية وداخلية بتسهيل مهمّته.
3 – انّ فريق عون السياسي لم «يجرؤ» على التصعيد المباشر في وجه ميقاتي، كما فعل مع الحريري. ربما يعود ذلك إلى أن ميقاتي «مدعوم».
ولكن أيضاً، ربما يعتمد هذا الفريق أسلوب التصعيد التدريجي في وجه ميقاتي، جرعة بعد أخرى، وعلى قدْر ما تسمح الظروف. وفي هذه الحال، يكون كلام باسيل المتلفز، قبل يومين، هو الجرعة الأولى «على الحساب».
ويولي البعض أهمية للمواصفات الشخصية، لدى كل من ميقاتي والحريري، ويعتقدون أن الأول يمتلك ميزات تفاوضية وقدرة على المناورة يفتقدها الثاني. ولذلك، وبمعزل عن الظروف والتأثيرات المحيطة، يصعب على عون وباسيل أن يُتعِبا ميقاتي كما أتعبا الحريري.
ولكن، سيكون متسرعاً مَن يعتقد أن القوى النافذة في السلطة، ولا سيما «حزب الله»، ستتخلّى عن عون نهائياً في مواجهة ميقاتي، وتسمح بظهور حليفها المسيحي في موقع المهزوم، في السنة الأخيرة من ولايته. فالرجل يمثّل نفوذ هذه السلطة، وعهدُه مُلْكٌ لها، بكل الإخفاقات التي راكمها. وأي محاولة لتحميل العهد مسؤولية عن الفشل ستعني أن المنظومة كلها تتحمل المسؤولية.
عدا عن ذلك، لم يسبق لـ»حزب الله» أن قام بدعم طرف في السلطة بشكل مطلق، بحيث يشعر هذا الطرف بالارتياح التام والاستقواء على الآخرين واحتكار السلطة، لأن هذا الاحتكار من شأنه إحراج «الحزب» نفسه أيضاً. وحتى عون، في اللحظات التي كان يتمتع فيها بأقصى الدعم، كان «الحزب» يترك هامشاً لدعم خصومه أيضاً، والحريري واحد منهم.
في أي حال، الانطباع الشائع هو أن السقف الأعلى لمهمَّة ميقاتي هو فرملة الانزلاق السريع نحو القعر، بإجراءات طارئة، ومنع وصول لبنان إلى وضعية التفكُّك التامّ، مع ما تُخلِّفه من تداعيات سلبية. وأما الحلول الجذرية فلا أحد يتوقعها في المدى المنظور، لا من ميقاتي ولا من سواه. وقد تتأخر إلى العهد المقبل، لسببين أساسيين:
– الأول هو أن مصير لبنان مرهون عضوياً بصراع المحاور الإقليمية- الدولية. وليس في الأفق ما يوحي بانفراجات حقيقية في هذا الصراع.
– الثاني هو أن العام الباقي من العهد والمجلس النيابي الحاليين لا يمكن أن يسمح بتحقيق تغيير جذري وإصلاحات هيكلية، في ظل منظومة الفساد. والإنقاذ يحتاج إلى تغيير جذري في تركيبة السلطة، وتنفيذ خطط إصلاحية حقيقية وطويلة الأمد.
إذاً، في العمق، ما الدور الذي سيضطلع به ميقاتي، إذا أتيح له تأليف حكومة؟
بصريح العبارة، سوف تتولّى الحكومة إدارة الفشل الذي سقط فيه العهد خلال السنوات الأولى، وترتيب ما بعده. ويعتقد البعض أن ذلك سيقود إلى تحميل العهد، لا الحكومات السابقة، مسؤوليات هذا الفشل. ولذلك، يعتبر فريق عون أن المهمَّة التي ستناط بحكومة ميقاتي ستكون حسّاسة جداً، بل خطرة.
فهي ستمحو كل ما حقَّقه عون خلال السنوات الـ5 الفائتة، عندما غَيَّر الواقع الذي كرَّسه الطائف، فأعاد الأولوية في إدارة البلد من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية. ومارس عون هامشاً واسعاً من الصلاحيات الممنوحة له، داخل آليات القرار في السلطة التنفيذية. كما أنه استثمر إلى الحد الأقصى احتكاره موعد الاستشارات النيابية، ولم يوقّع على أي حكومة لا تناسبه، مهما طالت المراوحة والتعثر.
يخشى فريق عون أن تكون حكومة ميقاتي هي «الضربة القاضية» لكل ما حقّقه، خصوصاً عندما يصل البلد إلى الاستحقاقين النيابي ثم الرئاسي. فإذا تعثرت الانتخابات، تصبح الحكومة الميقاتية هي الآمر الناهي. وإذا لم يكن فريق عون قوياً داخل الحكومة، بحيث يفرض حضوره ويشارك في القرار، فإنه سيصاب بهزيمة سياسية يصعب تعويضها.
والهزيمة تعني تحديداً أن ينتهي عهد عون بانتهاء عهده في خريف 2022، فيما هو يراهن على أن عهده لن ينتهي قبل خريف 2028، أي في نهاية العهد الذي سيتولاه باسيل.
ولذلك، على الأرجح، بدأت مواجهة عنيفة، ولكن صامتة، بين العهد وميقاتي. ولن يتراخى عون وباسيل مع ميقاتي إطلاقاً في مسألة التأليف، مثلما لم يتراخيا مع الحريري.
وإذا كان «حزب الله» غير مستعجل لقيام حكومة فاعلة في الوقت الحاضر، فإنه سيتفرّج على عون «يعذّب» ميقاتي كما «عذّب» الحريري. وفي الخضمّ، لا بأس ببعض الوعود التي تساهم في تنفيس الاحتقان الشعبي الهائل لمناسبة 4 آب، ومحاولة الاستفادة من أموال المساعدات الموعودة في مؤتمر الدعم.
العالمون يقولون إن «حزب الله» متمسك بباسيل للرئاسة كما كان متمسكاً بعون، بل إنه أيضاً يعتبر العهد المقبل استمراراً للعهد الحالي. فتجربة عون كانت ممتازة بالنسبة إليه، والرجل لم يقع في أي خطأ مع «الحزب».
إذا لم يكن هذا التصوُّر قد تبدَّل، فسيكون على «الحزب» أن «يُدَوزن» أوتار اللعبة ليبقى الجميع على المسرح. ولكن، لن يكون أي منهم قادراً على اتخاذ قرار خارج السيطرة والاستيعاب… إلا إذا طرأت تحوّلات محلية وإقليمية يمكن أن تَقلُب المعطيات رأساً على عقب.