بعيداً عن القراءات المتباينة لنتائج الانتخابات التمهيدية في «التيار الوطني الحر» ومقاربة كل فريق لها من المنظار الذي اختاره لنفسه، فراح يلبس الأرقام اللباس الذي يناسبه، ثمة ثابتة لا يمكن لأي عوني تجاوزها أو اغماض عينه عنها: «لا يزال التيار البرتقالي جسماً سليماً ينبض بالحياة قادراً على التفاعل مع التطورات، فيتحوّل في لحظة الحقيقة الى منبّه ذي صوت عالٍ يصعب جداً اسكاته».
بالأمس، قدّم العونيون «نموذجاً ساطعاً على دينامية هذا التنظيم الذي بنيت أساساته على حجارة المبادئ السيادية التواقة لكل أشكال الانتفاضات ورفض الأمر الواقع. وها هو بعد أكثر من ربع قرن على الولادة، يؤكد من جديد أنه رافض لكل ما هو معلّب ومُسقط، وقادر على المواجهة الديموقراطية واطلاق صرخة مدوية خصوصاً اذا كانت تعبّر عن الحالة الاعتراضية».
هكذا، يردد أحد المعنيين انّ أبرز ما يمكن استنتاجه من اليوم الانتخابي الطويل أنّ لعبة صناديق الاقتراع «لا تزال هي الحكم بين المحازبين وهي قادرة على فرد مساحة تعبير شاسعة لكل الآراء حتى لو تناقضت وتخاصمت في ما بينها، وهذا ما يرفع من رصيد المتحمسين للقيادة حين يدافعون عن «قدسية النظام الداخلي للحزب» وضرورة الاحتكام لمقتضياته، «لأنه يؤمن فعلاً لا قولاً ـ من وجهة نظرهم ـ مساحة اعتراض نظامية تتناغم مع مبدأ الالتزام الحزبي».
يؤكد المتحمسون للقيادة أنّ ما جرى الأحد الماضي «هو بداية استفتاء غير مسبوق في تاريخ الأحزاب اللبنانية، بمعزل عن الانتقادات التي يسجلها البعض، وهي فرصة حقيقية أمام القاعدة لتعبّر عن خياراتها الانتخابية لمن تريد أن يمثلها في الندوة البرلمانية».
مشهدية الأمس بالنسبة لهؤلاء «تنقض شكوى المعارضين من عدم وجود آليات محاسبة داخلية من شأنها أن تؤثر على مسار الحزب ومن أن رئاسة النظام تختصر القرار، فلقد أثبتت صناديق الانتخابات التمهيدية أنّ التعبير عن الرأي متاح وبأشكال متعددة».
بالتفصيل، لا يوافق هؤلاء على التصنيف الذي سارع المعارضون الى تسجيله من خلال استثمار النتائج وقسمها الى نصفين، نصف موال وآخر معارض. يعتبرون أنّ فرز المرشحين بـ «المسطرة» في غير محله حتى لو كان بعضهم يسجل اعتراضات معينة، ولكن التعامل مع الناس بـ «الجملة» فيه تحوير للحقائق والوقائع. ثمة اعتبارات محلية وأخرى لها علاقة بـ «بروفيل» المرشح وحضوره وعلاقته بالقاعدة الحزبية، هي التي لعبت دوراً مؤثراً بالنتائج.
الأهم من كل ذلك، بنظر هؤلاء، هو أنّ هذه التجربة سمحت لكل وجهة نظر بأن تعبّر عن ذاتها وظهّرت الأحجام على حقيقتها.
ومع ذلك، فإنّ صندوقة الاشرفية كانت لها رمزيتها الخاصة. صحيح أن لغطاً أثير حول حقيقة الأرقام وقد تبيّن أنّ قلمي الاقتراع تضمنا 174 ورقة ملغاة الى جانب 3 اوراق بيضاء وورقة باسم فاخوري، غير أنّ معركة العاصمة كان لها بعد مختلف.
بالنسبة للقيادة، فإنّ عبس «ذهب الى مربع الفصل لأنّ محاربته قرار الحزب، حوّلته من ملتزم الى مؤيد بعد اسقاط بطاقته الحزبية. وهذا ما حصل. بنظرهم، ما أفرزته صناديق الأحد «لم يكن مستغرباً لأن عبس صاحب حيثية، وهذا أمر لم ينكره عليه أحد، ولكن استثمار هذه الأرقام وكأنها تختصر الرأي العام العوني، فيه مبالغة ولا يعكس الواقع»!
ومع ذلك، يقول أحد المعارضين إنّ نائب رئيس «التيار الحر» نيكولا صحناوي خاض معركة بوجه «شبح» ولم يتمكن من تحصيل سوى 184 صوتاً مع كل امكانات السلطة التي كانت متاحة، ولذا فإنّ السؤال: ماذا لو كان عبس مرشحاً رسمياً؟ وهنا العبرة. واستطراداً كيف سيتعامل «التيار» مع الاستحقاق النيابي حين ستدنو ساعته؟ كيف سيتجاوز حاجز الاعتراض؟
ويضيف: إنّ لبيروت «رسالتها السياسية، لكن ثمة خيطاً رفيعاً غير مرئي مع بقية المربعات الانتخابية، خصوصاً بين مرشحين اعتبروا أنفسهم أنهم مستهدفون ومناضلون من المؤسسين يطالبون بالشراكة، ويُعمل على إبعادهم عن الحلبة، واذ بالصناديق تعيد تثبيت موقعهم. غسان عطا الله في الشوف، طانيوس حبيقة في المتن والذي قطع الطريق على هشام كنج مثلاً، جورج عطا الله في الكورة، وغيرهم ممن حجزوا موقعهم وصار بإمكانهم اكمال السباق بجدارة.
كذلك، ثمة نواب صاروا من الثوابت لا بل برهنوا بفعل نشاطهم وحضورهم وعلاقتهم القوية بالقاعدة أنهم يمثلون حيثيات شعبية لا يمكن تجاوزها، مقابل نواب «زحلت» الأرض من تحت أقدامهم، كحكمت ديب ونبيل نقولا وصارت امكانية استبدالهم متاحة.