يريد الرئيس ميشال عون أن يذهب إلى سوريا ويجلس «رأساً برأس» مع الرئيس بشّار الأسد، «نكاية» بـ«الدول» التي تمارس الابتزاز في ملف النازحين. ومبدئياً، لا مشكلة في ذلك مع الرئيس سعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط. هؤلاء سيسكتون، ولو على مضض. إنما، يحاذر الرئيس أن يصبّ الزيت على نار العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية. فإذا حُلَّت مشكلة الأسد مع السعودية، تصبح طريق الشام سالكة وآمنة. وكثير من الرافضين اليوم سيهتفون «قوموا تَ نهَنّي»!
ليس جديداً «تهديد» عون بلقاء الأسد. لكنه اليوم أكثر جدّية. فهناك رهان في الأوساط الداعمة لرئيس الجمهورية على تحوُّلات إقليمية قد تقلب المعادلات، وتتيح للبنان أن يسلك طريق التطبيع مع دمشق من دون استثارة الحساسيات لدى أحد.
والأبرز هو «الصدمة الإيجابية» التي قد تشهدها العلاقات السعودية- السورية، نتيجة المبادرة الروسية التي بدأت في الربيع الفائت، عندما تحرَّك لهذه الغاية ألكسندر لافرنتييف موفد الرئيس فلاديمير بوتين، على خط الرياض- دمشق.
آنذاك، رشح مناخ إيجابي. علماً أنّ شريكتين أساسيتين للسعودية هما الإمارات والبحرين كانتا قد فتحتا السفارتين في دمشق أواخر العام الفائت، فيما يبذل الأردن والعراق جهوداً حثيثة لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية التي أُخرجت منها عام 2011. وهنا تبدو لافتة مصافحة الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط أركان الوفد السوري في نيويورك قبل أيام.
فالرياض باتت مقتنعة واقعياً بأنّ الأسد باقٍ في السلطة، على الأقل إلى ما بعد التسوية السياسية. وهي أوقفت الحملات ضده لأنها صارت بلا هدف. كما جرت اتصالات بين العاصمتين على مستويات مختلفة.
وقد تحذو الرياض حذو الإمارات والبحرين في إعادة فتح السفارة في دمشق خلال فترة ليست بعيدة.
والشرط السعودي الأساسي للتقارب هو فكّ ارتباط الأسد بإيران. وهو يرضي الأميركيين أيضاً. فلا مشكلة كبيرة لدى واشنطن في التعامل واقعياً مع الأسد، حتى إشعار آخر، شرط أن يفكّ ارتباطه الوثيق بمحور طهران. وفي ظل التصعيد العسكري الذي يمارسه الإيرانيون ضد المملكة، من بوابة اليمن، يصبح ممكناً توقع تطورات في العلاقات السعودية- الإيرانية أيضاً.
إذاً، في هذا السياق الإقليمي جاء كلام عون الأخير، في نيويورك، عن فتح خط التفاوض مع دمشق في ملف النازحين. وهو باشر تحضير ملف المفاوضة على أكثر من مليون وربع المليون نازح. ويرى أنّ الحلّ واضح: الحرب انتهت في غالبية سوريا. فليعُد هؤلاء إلى بلدهم، إلى المناطق الآمنة في المرحلة الأولى. ولاحقاً، يتوزّعون على مناطقهم الأصلية.
والنموذج الذي اعتمدته تركيا، بإقامة منطقة آمنة على حدودها، ولكن داخل الأراضي السورية، يمكن تطبيقه على الحدود مع لبنان. طبعاً، من دون أنتهاك لبنان سيادة سوريا، كما تتّهم تركيا بانتهاك السيادة السورية في منطقتها الآمنة.
حتى اليوم، يتعامل لبنان مع ملف النازحين بشكل مضطرب. فالرئيس عون، خلال زيارته موسكو في الربيع الفائت، وضع الملف في أيدي الروس، لكنّ المبادرة الروسية بقيت مشلولة بسبب دخول العامل الأميركي على خط العلاقات بين بيروت وموسكو، واختلاف اللبنانيين على مبدأ التفاوض المباشر مع النظام السوري.
كما أنّ في مجلس الوزراء ورقتين مختلفتين يتبنّاهما فريق عون السياسي. الأولى أعدّها وزير الخارجية جبران باسيل قبل 5 سنوات، وطوّرها. والثانية أنجزها وزير شؤون النازحين صالح الغريب، في ضوء مشاورات مع المعنيين في دمشق.
والأرجح أن يجري إقرار خطة موحّدة تكتفي بالعموميات، إذ ستقول بالتنسيق مع الحكومة السورية لإعادة النازحين تدريجاً، مع ضمان عودتهم الآمنة، وبالتعاون مع الجهات والمؤسسات الدولية، وعلى أساس احترام المواثيق الدولية.
ويدرك عون أنّ الفريق السياسي المعارض للقائه الأسد سيلتزم وضعية المتفرّج تقريباً، أي إنه سيترك اللعبة تمشي. أولاً، لأنه عاجز عن وقفها، وثانياً لأنه لا يريد أن يُحَمَّل المسؤولية عن التعثّر في ملف النازحين، أحد أسباب المأزق الاقتصادي.
وحتماً سيضيف لبنان ملفات أخرى، كترسيم الحدود البحرية شمالاً، في ذروة الورشة لبدء استخراج الغاز والنفط. وهذا سيفتح نقاشاً لا يحبّه السوريون حول الحدود البرية والترسيم من عكار إلى مزارع شبعا.
كما يريد لبنان تسهيلات لعمليات الترانزيت عبر سوريا إلى الأردن والعراق، خصوصاً في ظلّ سعي هذين البلدين إلى فتح المعابر، وآخرها معبر القائم- بوكمال مع العراق.
وفي المبدأ، معظم هذه المواضيع لا يثير خلافات عميقة بين اللبنانيين أنفسهم. ولكن، هناك ملفات ذات طابع أمني وقانوني ستطرح نفسها على طاولة التفاوض. وهي ستثير موجة عارمة من الخلافات، بين لبنان وسوريا، كما بين اللبنانيين أنفسهم.
السؤال: كيف سيتصرَّف الأسد؟
على الأرجح، هو سيعتبر الفرصة متاحة لإجراء «مقاصّة» مع لبنان يتم فيها تبادل المصالح والسلع. فلبنان يطالب بالتخلص من أعباء النازحين، وعليه دفع الثمن. ولا شيء مجانياً في السياسة.
وبعض اللبنانيين سيكونون في جبهة واحدة مع الأسد في وجه القوى اللبنانية الأخرى، المعترضة، في الملفات ذات الطابع الأمني والقانوني. وهذا أسوأ وضع يمكن أن يصل إليه لبنان. فهو سيكرّس الانقسام الأهلي في ظل العامل السوري، ما يذكِّر بما كان قائماً قبل عام 2005. وسيلعب الأسد ورقة حلفائه المُمسكين بالسلطة، بما لذلك من تداعيات على ما بقي من تماسك الدولة.
إذاً، هناك فرص إقليمية حقيقية قد تتيح الانفتاح بين لبنان ودمشق الأسد. وسيحقّق ذلك أمنية حلفاء سوريا اللبنانيين. ولكن، إذا انطلقت المفاوضات فعلاً، هل يصل عون إلى الهدف المنشود في ملف النازحين ويسجّل الانتصار التاريخي، أم سيندم لأنه هرب من الابتزاز الدولي ليسقط مجدداً في فَخِّ الابتزاز السوري؟
وفي عبارة أخرى، هل يكون الابتزازُ السوري في ملف النازحين جزءاً من عملية الابتزاز الكبرى، الدولية والإقليمية؟