تبوأ جيفري فيلتمان منصب سفير الولايات المتحدة في لبنان بين 2004 – 2008، ويُعد من الوجوه اللامعة والمحنكة في الخارجية الاميركية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. تركزت أجندة فيلتمان في لبنان على عزل «حزب الله» وتوفير الشروط المثالية للقضاء عسكرياً عليه في مرحلة لاحقة. أجندة فيلتمان كانت جزءاً من استراتيجية بوش الابن في «الحرب على الارهاب» و «نشر الديموقراطية»، والتي ازدادت عدوانيةً بعد الفشل الأميركي في العراق والصعود المتواصل لمحور المقاومة في المنطقة بعد العام 2006.
اندفع الرجل بمهمته بكثير من الإخلاص والذكاء والتصميم، وتبرز وثائق «ويكيليكس» أن «سعادة السفير» كان يكرس جل جهده لمواجهة الحزب فقط. تحولت أجندة فيلتمان تجاه الحزب وبمرور الوقت الى نوع من الثأر الشخصي. فيلتمان هو مثال الشخصية الأميركية المستعلية التي يستفزها كبرياء الأمم الفقيرة وصمودها. تجلت الثأرية في توتر خطاب فيلتمان تجاه الحزب حتى بعد مرور سنوات من تركه منصبه في بيروت. ففي السنوات التي تلت 2008 استمر عند كل فرصة متاحة، في جلسات استماع الكونغرس أو زياراته ولقاءاته الديبلوماسية، «بتوجيه» اللبنانيين لعزل «حزب الله» باعتباره أكبر الشرور على مستقبلهم. وقد وصل الحال بفيلتمان الى الوعد العام 2010 بأنه «سيمزق حزب الله بألف ضربة بطيئة». في العام 2013، وقبل الانتخابات النيابية التي أٌجّلت لاحقاً، أكد فيلتمان أمام قوى 14 آذار أولوية السعي لعزل «حزب الله» سياسياً.
شكّل المجتمع المسيحي «ميدان الحرب» بين الادارة الأميركية و «حزب الله»، ففي ظل الاستقطاب الشيعي ـ السني الحاد كانت الغلبة لمن يجذب الأكثرية المسيحية. انطلق سعي فيلتمان لعزل «حزب الله» سياسياً عبر محاولة خلق تصور لدى الشعب اللبناني، المسيحيين تحديداً، بوجود فجوة ثقافية هائلة بين «حزب الله» وسائر اللبنانيين. فحملة «أحب الحياة» الشهيرة هدفت للترويج لمقولة أن قضية خلاف قوى 14 آذار مع «حزب الله» هي ثقافية قبل أن تكون سياسية، وبالتالي لا إمكانية للتفاهم والتعايش والمساومة بل لا بد من الإقصاء. تركزت أجندة العزل لدى فيلتمان على خلق ظروف تقنع العماد عون بأن مصالحه متضاربة مع «حزب الله» وثم شق الصف بين الطرفين. اعتقد فيلتمان أن إلحاق الهزيمة بعون في انتخابات 2013 سيمثل ضربة قاضية تنهي تفاهمه الشهير مع الحزب.
بالعودة لوثائق «ويكيليكس»، تظهر السفيرة سيسون، خَلَف فيلتمان، وهي تلقّن قادة «14 آذار» العناوين المطلوبة للحملات المضادة على «التيار الوطني الحر»: قضية الضابط سامر حنا، استخدام «حزب الله» للتيار كغطاء لإقامة دولة داخل الدولة وثم لفرض الدولة الإسلامية في لبنان، وأيضا التشكيك بمصادر عون المالية والإيحاء بتلقيه أموالاً من إيران وسوريا. يجب على قوى «14 آذار» أن تضع الناخب المسيحي أمام المعادلة التالية: «إما اختيار دولة مدنية ديموقراطية بجيش واحد، وإما دولة في حالة حرب مستمرة مع جارتها في الجنوب إسرائيل (08BEIRUT1638_a, 2008). وعليه «حين يبدأ المسيحيون بتصور كيف سيكون لبنان في ظل سيطرة «حزب الله»، فإنهم سينقلبون على عون»، يقول كريس ريد في أحد اجتماعات السفارة الأميركية. كريس ريد هو بالمناسبة من «المعهد الجمهوري الدولي» (يرأسه جون ماكين)، وخدم بصفته مستشار الاتصالات الإستراتيجية لقادة 14 آذار الاستقلاليين والذين نصحهم ريد بتصوير عون كخاضع وقائد ضعيف، ,08BEIRUT750 2008).
قبل أحداث 2008، كان الهدف إبقاء الحزب خارج الحكومة بعد انتخابات 2009، كما كانت حاله بعد استقالة الوزراء الشيعة في عهد حكومة السنيورة. ركز فيلتمان على تكريس معادلة «حكومة منتخبة – حركة تمرد» في لبنان، حكومة منتخبة شرعية مدعومة من «المجتمع الدولي» بوجه حركة «تمرد ارهابية» مدعومة من «محور الشر»، وهذا لم يكن ممكناً بوجود «حزب الله» في الحكومة. كان اتفاق الدوحة 2008 بمثابة «شهادة وفاة» لمشروع فليتمان في لبنان، فإقصاء الحزب وعزله سياسياً لم يعد ممكناً البتة بعدما امتلك «حق الفيتو».
لذا، ومع وصول أوباما الى الحكم في 2009، انتقل مركز الجهد الاميركي نحو «العزل الثقافي» ذي النفس الطويل، فيما تراجع «العزل السياسي» للدرجة الثانية. بل ظهرت حينها طروحات أميركية دعت إلى ضرورة «الانخراط والحوار» مع «حزب الله» بهدف اعادة تكييف أجندته من الداخل عبر ما يسميه الأميركيون «الجناح المعتدل» داخل الحزب. ومنذ العام 2011، حصل ما يمكن تسميته «تبدل اتجاه الضغط» اذ انتقل الضغط الأميركي على المقاومة الى المسرح الاقليمي ومنه باتجاه «حزب الله» بعدما كان الضغط في حقبة 2004 – 2011، مروراً بحرب 2006، ينطلق من لبنان باتجاه محور المقاومة.
صمد محور المقاومة في المواجهة التاريخية التي «تحرق» المشرق منذ 5 أعوام، انتقل الحزب للمساهمة الاقليمية المباشرة في صناعة مستقبل المنطقة. ومع انهيار الحدود الوطنية أو «سيولتها» بالحد الأدنى، أصبح التوازن الاقليمي عابراً للدول بشكل أوضح. بموازاة هذه التحولات، عزز «حزب الله» التقارب الثقافي ـ السياسي مع المجتمع المسيحي سواء عبر مزايا قوته العسكرية في حماية الاقليات، أو بإبراز مصداقيته وعمق التزامه الأخلاقي، وتكريس مشروعه السياسي القائم على قبول التنوع والشراكة وصولاً الى استخدام موارده الناعمة من الموسيقى الى السياحة المقاومة (مَعلَم مليتا).
لا يقاتل الحزب اليوم لأجل السماء وإن كان لا يشيح البصر والبصيرة عنها، بل يقاتل لما يعتبره مستقبلاً أفضل لشعوب المنطقة، فيُقدم خيرة شبابه في سبيل حفظ حق أبناء المنطقة في صناعة مصائرهم. بهذا المعنى، «حزب الله» يُقاتل للنصر، وينزل مقاتلوه الميدان وهم يرجون الغد الأفضل لمن خلفهم في الديار، لكي لا يعود «العصر الإسرائيلي». يمكن للحزب أن يخرج من المعركة، كما يفعل اليوم كثيرون، لكنه حينها عليه القبول بما يقرره الآخرون بخصوص لبنان والمنطقة، وعلى مجتمع المقاومة أن يستعد حينها لأثمان مضاعفة. ذهب الحزب للحرب بشروطه قبل أن تأتيه بشروطها.
المقاومة التي حجزت مقعداً، لها بالفعل وللبنان بالقوة، على طاولة التفاوض الاقليمي من اليمن إلى المشرق، من البديهي أن تصبح الأكثر تأثيراً في ادارة الملف اللبناني، وإن من خارج السلطة حتى اللحظة. من يقاتل وينتصر، يقرر، «حزب الله» في 31 تشرين الأول قرر مصير الرئاسة اللبنانية. «حقبة فيلتمان» انتهت في أيار 2008، ونُشرت ورقة نعيها في 2011 (إسقاط حكومة الحريري)، وفي 31 تشرين الأول 2016 استكملت مراسم الدفن. فما ستكون خيارات الإدارة الأميركية الجديدة تجاه «حزب الله»؟ لنستذكر حتى حينها قول نيتشه: «أفضل سلاح لمواجهة عدو ما هو عدو آخر».