لا يمكن فهم الظاهرة التي يمثّلها ميشال عون بالاعتماد فقط على تحليلات لسياساته المتغيّرة تجاه سوريا، أو موقعه من المعادلة الداخلية التي كان يحكمها حتى فترة قريبة الصراع بين معسكري 8 و14 آذار. ثمّة أهمية طبعاً لهذا البعد في صعوده ولكنها مقترنة بالمسبّبات الأخرى له والتي يُعتبر التمثيل الشعبي الواسع أحد أهمّ أركانها.
فلولا امتلاكه لهذه القاعدة الشعبية الواسعة لما أمكنه أن ينتزع حصّة وازنة في السلطة بعد توقيع اتفاق الدوحة، ولا أن يعقد تحالفات مع أطراف تمتلك بدورها تمثيلاً كبيراً وتستطيع من موقعها الداخلي – ولاحقاً الإقليمي- الدفاع باستماتة عن وصول الرجل إلى الرئاسة، حتى لو اضطرها الأمر إلى “الاشتباك” مع حلفاء يُعتبرون أقرب إليها بكثير من عون. في نظام سياسي معقّد وقائم على المحاصصة كالنظام اللبناني يستحيل استبعاد الأطراف التي تمثّل حالات شعبية من التمثيل السياسي، وفي حال استُبعدت من المعادلة كما حصل مع عون عقب توقيع اتفاق الطائف فإنها سرعان ما تعود إلى حجمها وتمثيلها الطبيعيين بمجرد زوال العامل الموضوعي الذي تسبّب في إبعادها. وهذا ما حصل بعد الخروج السوري العسكري من لبنان، غير أنّ العوامل الموضوعية التي أتى بها الخروج كانت “أقوى” من تلك التي انتهت بزواله، فكان التحالف الرباعي الذي قطع الطريق مجدداً على انتخابات نيابية تسمح “بتمثيل متساوٍ” للكتل الشعبية الكبرى. هكذا، استمرّت حالة منع الرجل وما يمثّل من الحصول على نصيبه في الحكم، واحتاج الأمر إلى حرب كبرى وجولة عنف أهلي حتى يُعاد إنتاج المعادلة الداخلية على قاعدة إعطاء عون – وسواه طبعاً- حقّه في التمثيل السياسي. قاد ذلك البلاد إلى إبرام تسوية في الدوحة لا تجبّ الطائف ولكنها تسمح لمن همّشته توازناته بمعاودة الحضور في العملية السياسية، بحيث يحصل التصحيح من دون المساس بحصص الكتل الأخرى التي أنصفها الطائف، وأتاح لها الدخول في معادلات الإقليم. على هذا الأساس أُجريت الانتخابات النيابية في عام 2009 وحصل فيها التيار الذي يمثّله عون على كتلة نيابية كبيرة تمثّل أغلبية حقيقية بالنسبة إلى بيئته الاجتماعية. ونظراً لحجم هذه الكتلة فإنها استطاعت عبر التحالفات التي عقدتها مع الكتل الأخرى المماثلة لها من حيث الحجم التأثير في المعادلات الداخلية قبل وبعد وقوع الأزمة السورية.
تغيّرات المشهد الإقليمي
ومع انشغال النظام هنا بأزمته الداخلية اختلّت مجدداً التوازنات السياسية في لبنان، واضُطرت الكتل النيابية المتحالفة مع سوريا إلى تدبير أمورها بمعزل عن المرجعية الإقليمية التي كانت تتشارك مع السعودية في إدارة الشأن اللبناني. في هذه المرحلة ساد وهمٌ لدى الأفرقاء الداخليين المناوئين لسوريا بإمكانية التحكّم باللعبة السياسية عبر المزيد من إضعاف النظام هنا، وفي ظنّهم أن إضعافه عبر دعم الاحتجاجات والعمل المسلح المناوئ له سينعكس على نفوذ حلفائه في الداخل، وعلى رأسهم حزب الله وعون.
مع انشغال النظام السوري بأزمته اختلّت مجدداً التوازنات السياسية
في لبنان
ولكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم مع تعقّد المسألة السورية وتزايد التدخّلات الإقليمية والدولية فيها، وهي تدخّلات تجعل حتى من الحضور الكبير لحزب الله على الساحة السورية أمراً غير حاسم على مستوى تقرير وجهة المعركة. بعد هذه المحطة تأكّد للفريق السعودي في لبنان أنّ النظام باقٍ بإرادة دولية، وانّ ضعفه لن ينعكس بالضرورة على نفوذ حلفائه في الداخل، وهو ما يجعل من التسوية أمراً محتوماً على قاعدة فكّ الارتباط مع صراعات الإقليم والالتفات إلى لملمة الوضع الداخلي بعدما استفحلت أزمات النظام اللبناني، وآخرها أزمة النفايات وما تسبّبت به من احتجاجات في الشارع. واتضحت هذه الوجهة أكثر مع تراجع النفوذ السعودي في لبنان ربطاً بالأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها اقتصاد “المملكة”، والتي تجعل من أيّ دعم إضافي على المستوى المالي مشروطاً بفاعلية كبيرة في مواجهة النفوذ المتزايد لحزب الله في الداخل. وهو ما يبدو مستحيلاً في هذه المرحلة التي تشهد أوسعَ حضورٍ للحزب على مستوى الإقليم، فضلاً عن دور داخلي يزداد اقترابه بسبب هذا الحضور بالذات من صفة المرجعية السياسية لهذه القوة المحلّية أو تلك. معرفة سعد الحريري بذلك بالإضافة إلى مشكلته المالية مع السعودية جعلته يقبل بتسوية يكون فيها لحلفاء سوريا وحزب الله دور أساسي في صياغة المعادلة الداخلية، أما هو فيحضر فيها على خلفية ابتعاده الجزئي عن السعودية، وقبوله بسبب هذا الابتعاد بتقاسم السلطة مع خصومها الداخليين.
انتهاء التحالفات السابقة
قبل تبنّي الحريري ترشيح عون للرئاسة بادر إلى ترشيح سليمان فرنجية زعيم تيار المردة، وهي خطوة كان الغرض منها جسّ نبض الفريق الآخر وتبيُّن مدى استعداده لقبول مرشّح لا يحظى بتمثيل واسع ويبدو في الوقت ذاته أقرب من عون إلى سوريا وحزب الله. لم تحظَ المبادرة بمباركة الحزب واعتُبرت مناورةً لتأجيل التسوية التي تقضي حكماً بوصول الطرف الأوسع تمثيلاً لبيئته إلى الرئاسة، حتى لو كان أبعد من فرنجية عن سوريا والحزب. لكن في المقابل كان لها إسهامٌ كبير في خلط الأوراق الجاري منذ بداية فكّ الارتباط مع الإقليم، فمع دخولها حيّز التنفيذ انتهت عملياً فاعلية التحالفات السابقة، وازداد التداخل بين الأفرقاء المنتمين إلى طرفي الانقسام الآفل في لبنان. وهو ما تأكّد أكثر مع تبنّي الحريري ترشيح عون، حيث تحوَّل الأمر من انتهاء للاصطفافات السابقة إلى بروز ملامح اعتراض على الترشيح داخل الكتل المتحالفة نفسها، فظهر إلى العلن تململُ بعض قواعد تيار المستقبل وقوى 14 آذار من قرار الحريري، في مقابل فيتو واضح من نبيه بري على وصول عون إلى الرئاسة. تسبّب ذلك بفوضى عارمة على صعيد التحالفات القائمة، واستدعى الأمر تدخّلاً من الحريري وحزب الله لطمأنة المعترضين بغية إقناعهم بالمضيّ في التسوية مقابل ضمانات بحصولهم على حصّة مساوية لحجمهم ودورهم في المعادلة الداخلية. وهذا يؤكّد على أنّ وصول ميشال عون إلى الرئاسة بعد تذليل الاعتراضات عليه لن يمرّ بسهولة، فالتسوية التي أوصلته اقتضت تفكيك التحالفات السابقة، وهو تغيّر رئيسي من شأنه أن يفضي إلى “تعديلات كبيرة” في عمل النظام. وحتى لو لم تحصل هذه التعديلات فإنّ مجرّد انتهاء العمل بالتحالفات السابقة يعني أنّ ثمة جديداً قد طرأ، وهذا الجديد يستحقّ في حالة الاستعصاء التي يعاني منها لبنان أن يكون في صدارة المشهد حالياً.
* كاتب سوري