على عكس التّصميم الذي كان أبداه منذ أيّام حول السير في خيار العماد ميشال عون وحصول الانتخاب في الجلسة المقرّرة نهاية هذا الشهر، بدا الرئيس سعد الحريري مرتاباً خلال الساعات الماضية وميّالاً للتفاهم مع الرئيس نبيه برّي وعدم القدرة على تجاوزه أو تجاهله حتى ولو أدّى ذلك الى تأجيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
هذا الواقع الجديد لن يُلغي إعلان الحريري تبنّي ترشيح عون لرئاسة الجمهورية كون القيام بهذه الخطوة سيؤدي الى خلاف فوري وكبير مع عون لكنّه يعني أنّ جلسة نهاية الشهر قد لا تشهد انتخاب عون، بل تأجيلها الى الشهر المقبل إفساحاً للمجال أمام إنجاز تفاهمات مع برّي.
في البداية كانت حسابات الحريري مختلفة.
كان قد سمع إصراراً من عون على تقريب الجلسة وليس فقط على التمسك بموعدها، وأنّه أي عون، وفور إعلان الحريري دعمه رسمياً عبر بيان من «بيت الوسط» سيزوره فوراً معلناً شكره لثقته قبل أن ينتقل بعدها الى مقرّ الرئيس نبيه برّي للقائه.
وهذا اللقاء الذي لن يحمل تفاهمات ثنائية لن يُبدّد معارضة برّي إلّا أنّ ذلك لن يمنع عون من النزول الى الجلسة ومعه نواب «حزب الله» لإتمام العملية الانتخابية. فعون الذي وصل الى هذه المرحلة، يخشى أن يؤدّي أيّ تأجيل الى مفاقمة العراقيل وبالتالي تراجع حظوظه.
وكان الحريري يستند أيضاً الى دعم النائب وليد جنبلاط والى التزام من عون بأنه سيعطي الجميع مهلة شهر لتشكيل الحكومة وإلّا فإنه سيصدرها بالتفاهم مع الحريري وعلى أساس منح الحقائب نفسها لحركة «امل» و«حزب الله».
طبعاً كان الحريري يحسب على أساس أنّ عون سيكون رأس الحربة وهو سيتولّى التفاوض والتعامل مع الفريق الشيعي، لذلك زاد تصميمه على عدم التراجع.
في هذا الوقت كان «حزب الله» يجدد التزامه لعون بانتخابه رئيساً للجمهورية، لكنه نصحه بالتفاوض مع برّي، على أن يقوم الحزب بما يمكن فعله ولكن بعد خريطة طريق تتضمّن اعلان الحريري موقفه رسمياً، ومن ثمّ زيارة الحريري لبرّي وثالثاً زيارة عون لبرّي. وجاء مَن يقول «تكاد تنفجر بيننا وبين برّي وهذا ليس في مصلحتنا خصوصاً أنّ برّي هو مَن يمثلنا داخل السلطة».
لكنّ عون بقي مصمّماً، أما الحريري فوجد نفسه امام جملة مشاكل استجدّت، أبرزها تراجع جنبلاط عن تأييده الاعمى لخيار الحريري وناصحاً بضرورة التفاهم مع برّي وعدم الذهاب الى المجهول. وأرفق موقفه الجديد بإرسال وفد الى عين التينة ترأسه نجله تيمور.
المشكلة الثانية والأهمّ جاءت مع اعلان برّي انه ذاهب الى المعارضة وهو ما قصد به ضمناً «سعد الحريري دبّر حالك مع «حزب الله» من الآن وصاعداً من دون مساعدتي».
وهذا الموقف سيصيب الحريري في ثلاثة مواقع:
1- صحيح أنّ «حزب الله» اعلن عدم معارضة وصول الحريري الى رئاسة الحكومة في حال انتخاب عون، لكنّ ذلك لا يعني أنّ نواب الحزب سيسمّون الحريري، وبالتالي وإزاء معارضة برّي لن تسمي الكتلة الشيعية الحريري الذي إن نجح في التصويت فسيكون ذلك بنسبة ضئيلة لتصبح العملية مخاطرة اكثر منها مضمونة.
2- هذا سيعني أيضاً خروج بري من الحكومة، وفي حال خرج «حزب الله» أيضاً فهذا سيعني افتقاد الحكومة للميثاقية الشيعية، وهذا مرجَّح. أما في حال قبول «حزب الله» بالمشاركة فهذا سيعني إلزام الحريري التعاطي الدائم مع الحزب فيما كان في السابق يستخدم علاقته مع بري كحاجز فاصل مع الحزب.
3- وهي النقطة الاهم، أنّ بري يلوّح بخروجه من رئاسة مجلس النواب ما سيعني حكماً وصول احد نواب «حزب الله» الى رئاسة المجلس النيابي، وهو ما يشكل إحراجاً كبيراً للحريري.
في اختصار يقول برّي للحريري، سأخرج أنا ليصبح شريكك «حزب الله»، فهل أنت قادر على تحمّل تبعات ذلك؟
ولا شك في أنّ الحريري قلق أيضاً لانه لم يسمع بضمانات كافية من «حزب الله» حول استمراره في رئاسة الحكومة للسنوات المقبلة. وهو لذلك شعر بوجوب التمهّل تجاه بري كونه لمَس أنه غير قادر على الذهاب بعيداً من دون تأمين حماية ظهره من برّي الذي اندفع اكثر الى الامام، فأعلن من مجلس النواب بشكل مباشر وواضح أنه ضد خيار عون بعدما كانت مواقفه تظهر من خلال وسائل الاعلام وليس بطريقة مباشرة.
ورغم ذلك، بات الحريري امام معادلة واضحة: «خيار وصول عون الى الرئاسة محسوم رغم معارضة برّي بسبب دعم «حزب الله»، أما وصولي الى رئاسة الحكومة ونجاحي في تشكيل الحكومة فمسألة بات مشكوكاً بأمرها في ظل ابتعاد بري والحزب على السواء».
لكنّ العقدة الابرز التي تقلق العواصم الغربية هي الكلام الذي نسب لوزير المال علي حسن خليل عن وجود سعي للعودة الى صيغة الـ1943، أي حكم مسيحي – سنّي من دون الشيعة. صحيح أنّ وزير المال عاد ونفى هذا الكلام، ولكنّ الاوساط الديبلوماسية تدرك أنه كلام جديّ وأنه يحمل مضامين خطيرة.
«هل تريدون حرباً جديدة لتقتنعوا بأنّ الشيعة شركاء في السلطة؟» وقيل إنّ هناك مَن ردّد أمام أحد السفراء: «تريدون تجاوز «اتفاق الطائف» والعودة الى الصيغة السابقة؟ حسناً فليكن ما تريدون ولكن وفق المعادلات التي تحكم الميدان».
وهذه المسألة تُقلق الاوساط الديبلوماسية، فالموصل أمام واقع جديد والعراق أمام تغييرات جذرية، نظام سياسي جديد. وفي سوريا حرب بلا رحمة في حلب وتغيير معادلات. وفي اليمن واقع آخر لا يشبه بشيء اليمن القديم ما يعني أنه من السذاجة فتح هذا الباب في لبنان في هذا الظرف.
ولدى لقائها الحريري طرحت السفيرة الاميركية اليزابيت ريتشارد العديد من الاسئلة ظاهرها استفهامي أو استكشافي ولكنّ مضمونها يحمل طابعاً سلبياً إزاء المسار الذي يسلكه.
أما السفير الروسي ألكسندر زاسبكين الذي بدا متحمِّساً في الظاهر فهو استخدم عبارة «التوافق» أكثر من مرة. وقبلهما كان الموفد الفرنسي جيروم بونافون قد تحدث صراحة أكثر عن تحفظات فرنسا إزاء خطوة الحريري.
الحريري كان ينام على «حرير» التفاهمات التي أنجزها نادر الحريري وجبران باسيل: يسمّي الحريري جميع الوزراء السنّة وهو حدّدهم وفق نظرته الانتخابية: واحد من عكار ومن طرابلس ومن البقاع ومن بيروت ومن صيدا، إضافة الى وزير ماروني هو غطاس خوري على الأرجح.
وهو اتكأ على التزام عون إصدار التشكيلة في حال تجاوزت المهلة الشهر. لكن في الحسابات الشيعية ما هو أبعد وله علاقة بالثلث المعطّل وسياسة الحكومة ومسارها العام لا بل إنّ «حزب الله» يعتبر أنّ إعطاء الحكومة صفة الحكومة الجامعة سيعني إشراك كلّ المكوّنات ولا سيما السنّية منها على اختلافها وليس حصرها بتيار «المستقبل» دون سواه.
كذلك إعادة إحياء «اتفاق الدوحة» لناحية الثلث المعطّل الذي اصبحت حساباته مختلفة بعد وصول عون الى رئاسة الجمهورية والتزامه التفاهم مع الجميع. وهو ما يعني أنّ هناك حاجة لفترة لا بأس بها من التفاوض تعطي انطباعاً مسبقاً أنها ستكون أبعد من نهاية هذا الشهر وربما أبعد ممّا يعتقد البعض.
لذلك يبدو الحريري أقل تسرّعاً وتصلّباً من الايام الماضية وهو ما عبّر عنه الوزير نهاد المشنوق مساء أمس حين قال: «ما منزعّل الرئيس برّي»، وعلى عكس ما كان قد قاله قبل ساعات: «لسنا مستعدين للانتظار دقيقة إضافية واحدة لقد انتظرنا برّي سنة كاملة مع فرنجية ولم يحصل شيء».