Site icon IMLebanon

عون رئيساً: هذا هو أصل الصورة

بعيد خروجه من الجيش، فتح «أبو جان» دكانة صغيرة لبيع الخضر، يسبق الشمس إليها صباحاً، ولا يغادرها إلا بعيد اطمئنانه إلى أن القرية كلها تعشّت ودخلت لتنام. تحت الميزان الحديدي القديم، غطاء طاولة أخضر تحته صورة يسترق «العم الياس» النظر إليها بين ساعة وأخرى ويبتسم.

«أبو جان» ما كان يبتسم للناس أبداً، بمن فيهم زبائنه المواظبون. كان يكتفي بسلام عابر ورمي الأسعار، كالحجارة، على سائليه عن هذه وتلك. لكن بينه وبين الصورة كان ثمة سر يليّن ملامحه. ولما كانت تصله معلومات عن مغرم آخر بصاحب الصورة كان يجري كل استقصاءاته ليتأكد إن كان بوسعه الوثوق بهذا الشخص قبل دعوته إلى داخل الدكان ورفع الغطاء عن كنزه وتربيت كتف المراهق قائلاً: «ح يرجع رئيس».

تمرّ الأيام، يحضر شريك العم الياس بالغرام كاسيتات يسجلها الجنرال بصوته ويرسلها إلى الطلاب، ونشرات مكتوبة، وصورة ملونة جديدة.

ويخبره عن موقع إلكتروني وغيره، لكن الخضرجي المسنّ لا يبالي بهذا كله، ويكرر فعل الإيمان: «ح يرجع رئيس». عبثاً يحاول الشاب إقناعه بمرافقتهم إلى ساحة الشهداء لاستقباله في «يوم العودة» أو في واحدة من زيارات عونيي البلدة للرابية. لم يبال «أبو جان» قَطّ بمكتب التيار الوطني الحر واجتماعاته وخلافات العونيين وأخبار تكتل التغيير والإصلاح وكل التفاصيل الأخرى. بقيت علاقته بالصورة شخصية جداً، ولا يعنيه شيء غير السؤال إن كان ثمة جديد يخص «الطلعة عالقصر». وعندما توفي قبل أن يتحقق حلمه، لم ينعه التيار أو يرسل أقله باقة ورد. حين مرّ الشاب المؤتمن على السر ووجد زوجة «أبو جان» في الدكان استأذنها أن يرفع الغطاء ليأخذ الصورة التي تركها الراحل له.

لاحقاً، كان هناك من يشبه «أبو جان» كثيراً، رغم بعد المسافات. إيلي يعيش في الولايات المتحدة منذ أكثر من ٣٥ عاماً، لكنه يتابع الشاردة والواردة في الحياة السياسية اللبنانية. وحين تسأله عن موعد زيارته المنتظرة للبنان، يجيب: «بس يصير فينا ننزل عالقصر». علماً أن معنويات إيلي تنخفض أحياناً. لكن اتصالاً سريعاً بالجنرال بين شهر وآخر يكفي لشحنه وتجديد ثقته بأنه سينزل إلى بعبدا قريباً.

هذا الجنرال لم يكن يوماً رئيس حزب أو تكتل نيابي ووزاري أو جليس صالونات سياسية في نظر مؤيديه. فالوصوليون كان يكفيهم موقع نيابي أو خدماتي يملأ بطونهم من فتات السلطة. أما الحالمون العونيون، فلم تكن «عون راجع» بالنسبة إليهم سوى اختصار لـ»عون راجع إلى بعبدا». العماد ميشال عون لم يكن يوماً، في نظر مريديه، مشرعاً أو معنياً مباشرة بتأمين الكهرباء أو غيره؛ ارتبط الأمر منذ البداية بوجوده في بعبدا وكل ما كان يحصل منذ عودته كان مفيداً ربما. لكنه كان يبعث على الملل عونياً. ورغم حديث الجنرال نفسه مراراً عن وجوب محاربة اليأس، أشار كثيرون في خلال العامين الماضيين إلى تعبه. فهو تعب من مشاكل العونيين في ما بينهم، ومن النواب والوزراء، ومن عراقيل رئيس المجلس اليومية لمشاريع القوانين والقرارات الوزارية وتذاكي الرئيس فؤاد السنيورة وغيره. لكنه، بدل الاستسلام للأمر الواقع، «لزّم» التيار سريعاً للوزير جبران باسيل، ووقف على صخرة تعهّد حزب الله بعدم السماح بانتخاب رئيس غيره. من يتحدثون اليوم عن تسويات ستكبل الجنرال لا يعرفون شيئاً عن ميشال عون. ميشال عون تلك الصورة المخبأة تحت الميزان في دكان الخضر العكاري، ميشال عون الرابض في قلب العذراء في صورة خبأتها الأمهات في الأناجيل ليل ١٣ تشرين الأول ١٩٩٠، ميشال عون الذي يدفع إيلي إلى توضيب حقائبه والقول لأبنائه: «الله يوفقكم، أنا راجع ع لبنان». ميشال عون الذي يستطيع العالم أن يسحقه، لكنه لا يحصل على توقيعه. بمعزل عن الظروف والضرورات، هذا ميشال عون الذي انتصر في النهاية ويفترض أن ينتخب رئيساً الاثنين المقبل. الرئاسة كانت هي الغاية بالنسبة إلى ميشال سليمان وغيره، لكنها بالنسبة إلى ميشال عون الوسيلة الضرورية لتحقيق الحلم.

والحلم كبير. فرغم كل ما يحيط بنا من إحباط، ورغم المعرفة التفصيلية بكيفية قبض المافيا على شرايين البلد، يكفي القول إن عون سينتخب رئيساً ليتفاءل كثيرون. علماً أن العونيين مربكون ولا يملكون أجوبة فيتحدثون عن «ضمان شيخوخة» و»أكاديمية رياضية» وغيرهما من العناوين التقليدية حين يُسألون عما سيفعله الجنرال. لكن الأمر لا يتعلق بهذا كله. بعد عام أو عامين لا بد من مساءلتهم عما حققوه، لكن الأمر لا يتعلق اليوم بهذا كله. الأمر مرتبط برجل أزيح بالقوة من قصر بعبدا ونفي ١٥ عاماً ولم يُترك أسلوب تشهير إلا استُخدم ضده، وحورب بُعيد عودته بشتى الوسائل، وها هو يُلزم الأبعدين قبل المقربين المفترضين بانتخابه رئيساً. الأمر يتعلق بقدرة حزب الله على كسر الإرادة الدولية والسعودية. الأمر يتعلق بانتخاب رئيس يملك وزناً نيابياً وشعبياً وسياسياً لا مجرد «طرطور». ولا شك في أن الاتفاق مع سعد الحريري سيكون مربكاً، لكن انتخاب رئيس غير ملزَم بشيء تجاه النظام الحاكم منذ الطائف، هو حدث بحد ذاته. ومن لم يفهم عظمة اللحظة، فما عليه يوم الاثنين المقبل سوى البحث عن بطرس حرب وسامي الجميّل وميشال المر وأيضاً ميشال فرعون وهادي حبيش وفريد مكاري، رغم كل ما يدعيه بعضهم من اغتباط لانتخاب عون، ورؤية وجوههم، وتخيل وجه فريد هيكل الخازن وفارس سعيد وغيرهما من أبناء البيوتات السياسية التي اعتقدت قبل ٢٥ عاماً أن كابوس عون قد أزيح إلى غير رجعة.

عون رئيساً هو غير عون رئيس الحزب ورئيس التكتل؛ عون رئيساً يعني العودة بالتاريخ ٢٦ عاماً للتأكيد أن الدبابة لا يمكن أن تقصي الإرادة الشعبية. عون رئيساً يعني أن ابن الفلاح الجزيني الذي نشأ في ضاحية بيروت نجح في الوصول في نهاية الأمر. عون رئيساً في هذه اللحظة يعني رئيساً للجمهورية اللبنانية من خارج النظام أو التركيبة الحاكمة أو المافيا بصريح العبارة. ولا يمكن لحظة الانتهاء من احتساب الأصوات التفكير بشيء غير انتصار العميد جورج زعرب ورفاقه الذين استشهدوا دفاعاً عن حق الشعب بانتخاب رئيسه، وابتسامة أبو جان وإيمان كثيرين بأن هذا الرجل بعناده وإصراره على دخول التاريخ قادر على فعل شيء لوطنهم.