قبل يومين من إعلان الحكومة، هَمس أحد النواب المسيحيين في صالون خاص، مبدياً تشاؤماً إزاء «تعثّر» انطلاقة العهد. لكنّ زميلاً له اعترض على الاستعجال قائلاً: «من الظلم التسرُّع في إطلاق هذا الاستنتاج. الأفضل هو إعطاء العهد مزيداً من الوقت لإثبات قدراته».
على رغم إعلان الحكومة، ومقارنة بين اليوم واليوم الأول الذي وصل فيه الرئيس ميشال عون إلى بعبدا، يعتقد كثيرون أنّ هناك تراجعاً واضحاً في درجة المراهنة على التغيير. وصحيح أنّ الرئيس يفضّل الصمت لئلّا يؤدي الكلام إلى مواجهات مع كثيرين، لكنّ البعض يعتقد أنّ هذا الصمت يخبّئ بعضاً من الخيبة.
«أمام العهد ست سنوات للعمل. ولا يجوز الحكم عليها بستة أسابيع». هذا ما يقوله القريبون من العهد، ويضيفون: «أساساً، يعتبر العهد أنّ المرحلة الفاصلة عن الانتخابات النيابية هي مرحلة انتقالية بين المنطق الذي كان سائداً والمنطق الذي يريد الرئيس عون تطبيقه.
والحكومة المولودة اليوم ستكون مهماتها انتقالية أيضاً، وتقتصر على تأمين إجراء الانتخابات النيابية. وبعد ذلك، أي في حزيران، يبدأ «العهد الجديد» فعلاً».
ولذلك، في رأي هؤلاء، لا بأس بالمناوشات التي جرت حول الحكومة. وهي كانت طبيعية ومنتظرة في أيّ حال، ولا علاقة للعهد بها. لكنّ المؤكد هو أنّ عون لا يؤدي دور صندوق البريد في هذه الأزمة، كما كان بعض رؤساء الجمهورية منذ «اتفاق الطائف»، بل يبذل ما في وسعه لإعطاء الرئاسة دورها الحقيقي.
هذا الكلام «المطمئن»، الصادر عن القريبين من العهد، لا يخفي أجواء أخرى بدأت تنمو في المقابل، وتطرح أسئلة عن قدرة العهد على الصمود في وجه عملية القضم التدريجي التي يتصدى لها منذ اليوم الأول، وهي مستمرة.
وفي رأي البعض أنّ عون لم يقدِّم حتى الآن تنازلات واضحة يمكن لأيّ كان أن يعيِّره بها. لكنه ـ في الواقع ـ بدأ يعتاد على التعاطي «واقعياً» مع الأزمة والأطراف المتنازعة. وإذا استمرّ في ذلك لفترة طويلة، فسيُستدرج نحو موقع لطالما انتهى إليه الرؤساء السابقون الذين كان عون يأخذ عليهم أنهم ضعفاء ويرضخون للأمر الواقع.
فمعظم الرؤساء السابقين حاولوا، خصوصاً مع انطلاقة عهودهم، أن يحرّروا موقع الرئاسة من الضغوط. وقد استعان العديد منهم بطواقم سياسية وحقوقية مهمتها التفتيش عن السبل إلى استعادة الرئاسة ما فقدته من صلاحيات. لكنهم لم ينجحوا، لأسباب مختلفة.
ويلاحظ هؤلاء أنّ أعلى مستوى من الزخم أظهَره عون كان في خطاب القسَم، خلال جلسة انتخابه. وبعد ذلك، أخذ الزخم يتراجع تدريجاً في موازاة التعثّر في إعلان الحكومة. ولا يُنكِر حتى القريبون من العهد أنّ مقياس الزخم الرئاسي كان يسجِّل مستويات أعلى عند انطلاقه.
من علامات التراجع «الصامت» مثلاً، أنّ الحكومة التي قادت إليها المفاوضات لم تعد هي إيّاها الحكومة التي كان عون يأمل في تشكيلها لتكون أولى حكومات عهده. ومع التأخير في إعلان الحكومة، تبدَّدت ملامح الحماس التي حملها عون معه إلى بعبدا، لتحلّ مكانها «الواقعية اللبنانية» المعروفة.
ويتوقع البعض سقوط العديد من «الأساطير» التي لطالما تحدّث عنها المتحمّسون في وصفهم عون عندما يأتي إلى الرئاسة. فقد قيل الكثير عن «سوبرمان» ماروني يستطيع بشخصيته وعناده وقوته الذاتية والتحالفية أن يعيد هيبة الرئاسة، حتى من دون الحاجة إلى تعديلات دستورية تعيد إليها ما فقدته في الطائف. وواضح أنّ عون بدأ عهده بذهنية «السوبرمان»، وهو مستمرّ بها، لكنّ هذه الذهنية تبدو على المحك.
ولا يكمن العطل في أنّ عون يتراجع عن موقفه، فهو أساساً يمضي في صموده ولا يتراجع. لكنّ عملية القضم أو الانزلاق التي يواجهها تتمّ ببطء ومن دون ضجيج. وخصوم عون، وبعض حلفائه، يقودون اللعبة علناً وسرّاً إلى حيث يكتشف العهد أنه ليس «خارقاً» بالفعل، كما هو يظنّ.
إذاً، المسألة هي مسألة وقت. وصراع عون الحقيقي هو مع الوقت الذي يستهلك الزخم ويخفّض المعنويات.
ويقول البعض: ربما يبدو باكراً تحميل أزمة التأليف الحكومي- التي انتهت- أكبر من حجمها. فكل الحكومات السابقة شهد تأليفها تجاذبات طالت أكثر بكثير من الحكومة الحريرية الموعودة. فلماذا تُعطى الأزمة الحالية أكبر من حجمها الحقيقي؟
الجواب عن هذا السؤال هو الآتي: إنّ الحكومات التي تأتي مباشرة مع انطلاق العهود الرئاسية في لبنان غالباً ما تكون جزءاً من الصفقات التي تشمل انتخاب الرئيس وتركيبة الحكومة وحتى المجلس النيابي، والتعثّر الذي حصل في تأليف الحكومة كان مؤشراً إلى كباش مع العهد، وإلى خلل في منطق الصفقة في أساسه.
في أي حال، ما زال عون في الأسابيع الأولى من عهده. ولذلك، هو في فترة سماح. لكنّ هذه الفترة محدودة في الزمن، فإلى متى ستدوم؟ وماذا سيفعل عون إذا وجد أنّ هذه الفترة تذوب شيئاً فشيئاً؟